ويجوز أن تكون اللام بمعنى : التسليم ، أي : اهبط مسلما عليك مكرما . وقرئ : ( اهبط ) بضم الباء ، وحكى عبد العزيز بن يحيى ( وبركة ) على التوحيد عن ، وبشر بالسلامة إيذانا له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمنا من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيرا له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : ( الكسائي وبركات عليك ) أي : دائمة باقية عليك . والظاهر أن من لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر . قال : ويحتمل أن تكون من للبيان ، فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات . وقيل لهم : أمم ، لأن الأمم تشعبت منهم ، انتهى . الزمخشري
وهذا فيه بعد وتكلف إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخصر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس .
وارتفع أمم على الابتداء . قال : و ( الزمخشري سنمتعهم ) صفة ، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ( ممن معك ) ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك .
وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار ، انتهى . ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم ، أي : ممن معك ، أي : ناشئة ممن معك ، و ( سنمتعهم ) هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي : منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة . ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر ( سنمتعهم ) ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم ، انتهى . فإن كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول كلمت : زيدا وعمرو جالس ، انتهى . فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أن تكون الواو للحال ، وتكون حالا مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة .
وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد ، و ( سنمتعهم ) نعت لـ ( أمم ) ، انتهى . وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ( ومن آمن ) ، ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يئولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أن من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد . وظاهر قوله : ممن معك يدل على أن المؤمنين والكافرين نشئوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أن نوحا عليه السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد [ ص: 232 ] بالذين معه : أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص . وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين ، فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم ، بل الخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة .
والأمم الممتعة ليسوا معينين بل هم عبارة عن الكفار . وقيل : هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
تلك إشارة إلى قصة نوح ، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) في آل عمران ، ( وتلك ) : إشارة للبعيد ، لأن بين هذه القصة والرسول مددا لا تحصى . وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن ، و ( من أنباء الغيب ) وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله ، و ( نوحيها إليك ) ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك ، وأعلمناهم بها ليكون مثالا لهم وتحذيرا أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن الله ، فالعاقبة لك كما كانت لـ نوح في هذه القصة . ومعنى ما كنت تعلمها أي : مفصلة كما سردناها عليك ، وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال .
والمجوس الآن ينكرونه . والجملة من قوله : ( ما كنت ) في موضع الحال من مفعول نوحيها ، أو من مجرور إليك ، وقدرها تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر ، والإشارة بقوله : ( الزمخشري من قبل هذا ) إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي ، احتمالات . وفي مصحف ( من قبل هذا القرآن ) وقال ابن مسعود : ( الزمخشري ولا قومك ) معناه : أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم ؟ كما تقول : لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده ؟ .