( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) : سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه ، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت . وقيل : نزلت قبل ذلك ، واستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة هذا [ ص: 270 ] الرجل فقال رجل : أله خاصة ؟ قال : لا ، بل للناس عامة وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات ، حيث جاء الخطاب في الأمر ، ( فاستقم كما أمرت ) ، و ( أقم الصلاة ) موحدا في الظاهر ، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاما ، وجاء الخطاب في النهي : ( ولا تركنوا ) موجها إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، مخاطبا به أمته ، فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه ، وحيث كان بالنهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته ، وهذا من جليل الفصاحة . وخلاف أن المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة ، وإقامتها دوامها ، وقيل : أداؤها على تمامها ، وقيل : فعلها في أفضل أوقاتها ، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة . وانتصب طرفي النهار على الظرف . وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر ، لأنهما طرفا النهار ، ولذلك وقع الإجماع ، إلا من شذ على أن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة ، وما بعد طلوع الفجر من النهار .
وقد ادعى الطبري والماوردي الإجماع على أن أحد الطرفين الصبح ، والخلاف في ذلك على ما نذكره .
وممن قال : هما الصبح والعصر الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وقال : الزلف المغرب والعشاء ، وليست الظاهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها . وقال مجاهد : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء ، وليست الصبح في هذه الآية . وقال ومحمد بن كعب ابن عباس والحسن أيضا : هما الصبح والمغرب ، والزلف العشاء ، وليست الظهر والعصر في الآية . وقيل : هما الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء والصبح ، وكأن هذا القائل راعى الجهر بالقراءة والإخفاء . واختار ابن عطية قول مجاهد ، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح ، إنما الظهر نصف النهار ، والنصف لا يسمى طرفا إلا بمجاز بعيد ، ورجح قول الطبري : وهو أن الطرفين هما الصبح والمغرب ، ولا تجعل المغرب طرفا للنهار إلا بمجاز ، إنما هو طرف الليل . ابن عباس
وقال : غدوة وعشية قال : وصلاة الغدوة الصبح ، وصلاة العشية الظهر والعصر ، لأن ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى . الزمخشري
ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفا للنهار ، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار ، لا في الغداة والعشي . وقرأ الجمهور : ( وزلفا ) بفتح اللام ، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : بضمها كأنه اسم مفرد . وقرأ ابن محيصن ومجاهد : بإسكانها وروي عنهما : ( وزلفى ) على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة . وأما القرءات الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة ، فزلف جمع كظلم ، وزلف كبسر في بسر ، وزلف كبسر في بسرة ، فهما اسما جنس ، وزلفى بمنزلة الزلفة . والظاهر عطف وزلفا من الليل على طرفي النهار ، عطف طرفا على طرف . وقال : وقد ذكر هذه القرآت وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل . وقيل : زلفا من الليل ، وقربا من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي : أقم الصلاة في النهار ، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل . الزمخشري
والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة ، وصيام رمضان ، وما أشبههما من فرائض الإسلام . وخصوص السيئات وهي الصغائر ، ويدل عليه الحديث الصحيح : ما اجتنبت الكبائر وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين : إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإليه ذهب عثمان عند وضوءه على المقاعد ، وهو تأويل مالك . وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال . والصغائر التي تذهب هي [ ص: 271 ] بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص حذاق الأصوليين . ومعنى إذهابها : تكفير الصغائر ، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها ، لا أنها تذهب حقائقها ، إذ هي قد وجدت .