وقال : المحسنون هم المصلون ، كأنه نظر إلى سياق الكلام . وقال ابن عباس مقاتل : هم المخلصون ، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم . ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) : ( لولا ) هنا للتحضيض ، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : ( ياحسرة على العباد ) والقرون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن تقدم ذكره . والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين ، وسمي الفضل والجود بقية ، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل . فيقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبه فسر بيت الحماسة :
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم
ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا . وإنما قيل : بقية لأن الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول .وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة . وقال : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه . وقرأت فرقة ( بقية ) بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي ، نحو : شجيت فهي شجية . وقرأ الزمخشري أبو جعفر ، وشيبة : ( بقية ) بضم الباء وسكون القاف ، على وزن فعلة . وقريء : ( بقية ) على وزن فعلة للمرة من بقاه بقيا إذا رقبه وانتظره ، والمعنى : فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم .
والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر . ( إلا قليلا ) استثناء منقطع أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى ، وصيرورته إلى أن الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد .
والكلام عند بالتحضيض واجب ، وغيره يراه منفيا من حيث معناه : أنه لم يكن فيهم أولو بقية ، ولهذا قال سيبويه بعد أن منع أن يكون متصلا : ( فإن قلت ) : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من [ ص: 272 ] القرون أولوا بقية إلا قليلا ، كان استثناء متصلا ، ومعنى صحيحا ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى . الزمخشري
وقرأ : ( إلا قليل ) بالرفع ، لحظ أن التحضيض تضمن النفي ، فأبدل كما يبدل في صريح النفي . وقال زيد بن علي الفراء : المعنى فلم يكن ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد ، وأبى الأخفش كون الاستثناء منقطعا ، والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد .
و ( ما أترفوا فيه ) أي : ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني ، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم . و ( اتبع ) استئناف إخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا ، وإخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي : ذوي جرائم غير ذلك .
وقال : إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر ، لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه : واتبعوا جزاء الإتراف . قالوا وللحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . وقال : ( الزمخشري وكانوا مجرمين ) ، عطف على ( أترفوا ) ، أي اتبعوا الإتراف .
وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى . فجعل ( ما ) في قوله : ( ما أترفوا فيه ) مصدرية ، ولهذا قدره : اتبعوا الإتراف ، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها . وأجاز أيضا أن يكون معطوفا على ( اتبعوا ) أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك . قال : ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى .
ولا يسمى هذا اعتراضا في اصطلاح النحو ، لأنه آخر آية ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر . وقرأ ، جعفر بن محمد والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح ، وأبو عمر في رواية الجعفي : وأتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف ، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين ، أي جزاء ما أترفوا فيه . وقال : ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم ، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل : إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر ( الزمخشري وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) : تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام ، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي ، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد ، وعلى مذهب البصريين نوجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام ، وهنا ( وأهلها مصلحون ) . قال : بشرك منهم وهم مصلحون ، أي : مصلحون في أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم في بعض ، أي : أنه لا بد من معصية تقترن بكفرهم ، قاله الطبري ناقلا . قال الطبري ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال : إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متجها ، أي : ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان .
والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل : بظلم منه تعالى عن ذلك . وقال : ( الزمخشري وأهلها مصلحون ) : تنزيها لذاته عن الظلم ، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم ، انتهى .
وهو مصادم للحديث : وللآية : ( أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم ، إذا كثر الخبث واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) .