[ ص: 287 ] حكي أنهم قالوا ليوسف : اطلب من أبيك أن يبعثك معنا ، فأقبل على يوسف فقال : أتحب ذلك ؟ قال : نعم . قال يعقوب : إذا كان غدا أذنت لك ، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته ، وخرج مع إخوته فشيعهم يعقوب وقال : يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف ، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال : استودعتك الله رب العالمين ، وانصرف فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم ، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به ، وذكر المفسرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر ، وهم لا يزدادون إلا قساوة ، ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها ، فيوقف عليها في كتب التفسير ، وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره : فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف ، ( فلما ذهبوا به وأجمعوا ) أي : عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب ، و ( أن يجعلوه ) مفعول ( أجمعوا ) ، يقال : أجمع الأمر وأزمعه - بمعنى العزم عليه - واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء ، وبمعنى التصيير ، واختلفوا في جواب ( لما ) أهو مثبت ؟ أو محذوف ؟ فمن قال : مثبت ، قال : هو قولهم ( قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق ) أي : لما كان كيت وكيت ، قالوا وهو تخريج حسن ، وقيل : هو أوحينا ، والواو زائدة ، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما ، وحتى إذا ، وعلى ذلك خرجوا قوله : ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) أي : ناديناه ، وقوله : ( حتى إذا جاءوها وفتحت ) أي : فتحت . وقول امرئ القيس :
فلما أجزنا سـاحـة الحي وانتحى
أي : انتحى . ومن قال : هو محذوف ، وهو رأي البصريين ، فقدره : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به ، وما حاوروه وحاورهم به ، قدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم ، وقدره بعضهم : جعلوه فيها ، وهذا أولى ؛ إذ يدل عليه قوله : ( الزمخشري وأجمعوا أن يجعلوه ) والظاهر أن الضمير في ( وأوحينا إليه ) عائد على يوسف ، وهو وحي إلهام قاله مجاهد ، وروي عن : أو منام ، وقال ابن عباس الضحاك وقتادة : نزل عليه جبريل في البئر ، وقال الحسن : أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيرا ، كما أوحى إلى يحيـى وعيسى عليهما السلام ، وهو ظاهر ( أوحينا ) ، ويدل على أن الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) . وقيل : الضمير في ( إليه ) عائد على يعقوب ، وإنما أوحي إليه [ ص: 288 ] ليأنس في الظلمة من الوحدة ، وليبشر بما يئول إليه أمره ، ومعناه : للتخلص مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك ، ( وهم لا يشعرون ) جملة حالية من قوله : ( لتنبئنهم بأمرهم هذا ) أي : غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك ، وبعد حالك عن أذهانهم ، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال ، وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : ابن جريج يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب ، وبيع بثمن بخس ، ويجوز أن يكون ( وهم لا يشعرون ) حالا من قوله : ( وأوحينا ) أي : وهم لا يشعرون ، قاله قتادة ؛ أي : بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك ، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك ، وقرأ الجمهور ( لتنبئنهم ) بتاء الخطاب ، بياء الغيبة ، وكذا في بعض مصاحف البصرة . وقرأ ( سلامن ) بالنون . وابن عمروالذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيرا ، فقيل : كان عمره إذ ذاك سبع سنين ، وقيل : ست قاله الضحاك . وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة ، وثمان عشرة سنة وكلاهما عن الحسن ، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب ، ويدل على أنه كان صغيرا بحيث لا يدفع نفسه ، قوله : ( وأخاف أن يأكله الذئب ) ( ويرتع ويلعب ) ( وإنا له لحافظون ) ، وأخذ السيارة له ، وقول الوارد : ( هذا غلام ) ، وقول العزيز : ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) وما حكي من حملهم إياه واحدا بعد واحد ، ومن كلامه لأخيه يهوذا : ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك يعقوب ، ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة ، ولا يقال فيه : ( وإنا له لحافظون ) لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه ، ولا يسمى غلاما إلا بمجاز ، ولا يقال فيه : ( أو نتخذه ولدا ) .
و ( عشاء ) نصب على الظرف ، أو من العشوة ، والعشوة : الظلام ، فجمع على فعال ، مثل : راع ورعاء ، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن ( عشا ) على وزن دجى ، جمع عاش ، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك ، وأصله مالكة ، وعن الحسن ( عشيا ) على التصغير ، قيل : وإنما جاءوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار ، وفي الكلام حذف تقديره : وجاءوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون ، فقال : أين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا ، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما لكم ، أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى ، وصاح ، وخر مغشيا عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ، فلم يفق إلا ببرد السحر ، قال : لا يصدق باك بعد إخوة الأعمش يوسف . و ( نستبق ) أي : نترامى بالسهام ، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوا ، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب ، أو نتصيد ؛ أربعة أقوال .
( عند متاعنا ) أي : عند ثيابنا ، وما تجردنا له حالة الاستباق ، وهذا أيضا يدل على صغر يوسف ؛ إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم ( فأكله الذئب ) قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم ( وأخاف أن يأكله الذئب ) لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه .
( وما أنت بمؤمن لنا ) أي : بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين ، أو لست مصدقا لنا على كل حال حتى في حالة الصدق ، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف ، وإنا نرتاد له الغوائل ، ونكيد له المكائد ، وأوهموا بقولهم : ( ولو كنا صادقين ) أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف ، فيكون صدقهم مقيدا بهذه النازلة ، أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة ، لشدة [ ص: 289 ] محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيء الظن بنا في هذه النازلة ، غير واثق بقولنا فيه ؟
روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا ليعقوب : هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا ارتاب فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلا ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب ، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، ودليلا على براءة يوسف حين قد من دبر ، قال : فإن قلت : ( الزمخشري على قميصه ) ما محله ؟ ( قلت ) : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم ، كما تقول : جاء على جماله بأحمال ، ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون حالا مقدمة ؟ ( قلت ) : لا ؛ لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ، انتهى . ولا يساعد المعنى على نصب " على " على الظرف بمعنى فوق ؛ لأن العامل فيه إذ ذاك ( جاءوا ) ، وليس الفوق ظرفا لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم ، وقال الحوفي : ( على ) متعلق بـ ( جاءوا ) ولا يصح أيضا ، وأما المثال الذي ذكره وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفا للجائي ؛ لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال ؛ أي : مصحوبا بأحمال ، وقال الزمخشري أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالا من الدم ؛ لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قميصه ، انتهى . وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء .
وقرأ الجمهور : ( كذب ) وصف لـ ( دم ) على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ؛ أي : ذي كذب ، لما كان دالا على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادرا من غيره ، وقرأ : ( كذبا ) بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال ، وأن يكون مفعولا من أجله ، وقرأت زيد بن علي عائشة والحسن : ( كدب ) بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ، وقيل : الطري ، وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب ؛ أي : أثر ؛ لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، فهو كالنقش ، ويسمى ذلك البياض الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير ، قال : ( بل سولت ) هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب بل سولت ، قال : أمرتكم أمرا ، وقال ابن عباس قتادة : زينت ، وقيل : رضيت أمرا ؛ أي : صنيعا قبيحا ، وقيل : سهلت ، فصبر جميل ؛ أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل ، وقرأ أبي ، والأشهب وعيسى بن عمر : ( فصبرا جميلا ) بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبي ، ومصحف ، وروي كذلك عن أنس بن مالك ، ونصبه على المصدر الخبري ؛ أي : فاصبر صبرا جميلا ، قيل : وهي قراءة ضعيفة عند الكسائي ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله : سيبويه
شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى
( والله المستعان ) أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية .
( وجاءت سيارة ) قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه [ ص: 290 ] يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته . وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب . وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب . قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ، وقيل : سيارة في الطريق أخطأوه فنزلوا قريبا من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء ، والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم ، ليست إضافة إلى المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم ، والظاهر أن الوارد واحد ، وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة ، انتهى . وحمل على معنى السيارة في قوله : ( فأرسلوا ) ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها . ( فأدلى دلوه ) أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي ، في الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي ، وتعلقه بالحبل يدل على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالبا ، ولفظة غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في : الحجاج بن يوسف
غلام إذا هز القناة سقاها
وقوله : يا بشراي ؛ هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، إذ رأى أحسن ما خلق ، وأبعد في زعمه أن ( بشرى ) اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى : فهذا من آونتك ، وقرأ ( السدي يابشرى ) بغير إضافة الكوفيون ، وروى عن ورش نافع : ( يا بشراي ) : بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في ( ومحياي ) وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري : ( يابشرى ) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل ، ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة ، في ( فمن تبع هداي ) قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه ، الظاهر أن الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر ، وقال : الضمير في ( ابن عباس وأسروه ) ( وشروه ) لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاءوهم وقالوا تلك المقالة ، وانتصب بضاعة على الحال أي : متجرا لهم ومكسبا . ( والله عليم بما يعملون ) أي : لم تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم ، أو والله عليم بعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف ، قيل : أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد مضاءها ، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج إخوته إليه ، ورفع أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنونا في القدر .