[ ص: 308 ] ( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا )
في الكلام حذف تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه ، وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله . ومع : تدل على الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ، ولما دخل السدي يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسأل لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له : كن في أي البيوت شئت ، فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى ، وكان يوسف - عليه السلام - قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أن لا تحباني ، وذكر ما تقدم ، وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا ، إن لهذا لأجرا فقالوا : بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .
وهذه الرؤيا التي للفتيين ، قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله ، وقال ابن مسعود : استعملاها ليجرباه ، والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ، والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، و " رأى " الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فـ ( أراني ) فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد ، ولا يجوز أن يقول : اضربني ولا أكرمني ، وسمي العنب خمرا باعتبار ما يئول إليه ، وقيل : الخمر بلغة والشعبي غسان اسم العنب ، وقيل : في لغة أزد عمـان ، وقال المعتمر : لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمرا ، أراد العنب ، وقرأ أبي وعبد الله : أعصر عنبا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما ( أعصر خمرا ) قال ابن عطية : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها ، وفي مصحف عبد الله : فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه ، وهو أيضا تفسير لا قراءة ، والضمير في تأويله عائد إلى ما قصا عليه ، أجري مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك ، وقال الجمهور : ( من المحسنين ) أي : في العلم ؛ لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم . وقال الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم . وقال : أرادا إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا إذا تأول لهما ما رأياه . ابن إسحاق