وقرأ عبد الله : ( قل هذا سبيلي ) على التذكير . والسبيل يذكر ويؤنث ، ومفعول ( أدعو ) " هو " محذوف تقديره : أدعو الناس . والظاهر تعلق ( على بصيرة ) بـ ( أدعو ) ، و ( أنا ) توكيد للضمير المستكن في ( أدعو ) . ( ومن ) معطوف على ذلك الضمير ، والمعنى : أدعو أنا إليها من اتبعني . ويجوز أن يكون ( على بصيرة ) خبرا مقدما ، و ( أنا ) مبتدأ ، ( ومن ) معطوف عليه . ويجوز أن يكون ( على بصيرة ) حالا من ضمير ( أدعو ) فيتعلق بمحذوف ، ويكون " أنا " فاعلا بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف ، ( ومن اتبعني ) معطوف على " أنا " . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ( ومن اتبعني ) مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك ؛ أي : داع إلى الله على بصيرة . ومعنى ( بصيرة ) حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله : ( قد جاءكم بصائر من ربكم ) .
( وسبحان الله ) داخل تحت قوله : ( قل ) أي : قل ، وتبرئة الله من الشركاء أي : براءة الله من أن يكون له شريك ، ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله ، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء ، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك ، وأنه ليس ممن أشرك . وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم ، ولا في وقت من الأوقات إلا رجالا ، حصر في الرسل دعاة إلى الله ، فلا يكون ملكا . وهذا رد على من قال : ( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) وكذلك ، قال : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) وقال : يعني رجالا لا نساء ، فالرسول لا يكون امرأة ، ابن عباس ؟ فيه خلاف ، والنبي أعم من الرسول ؛ لأنه منطلق على من يأتيه الوحي ، سواء أرسل أو لم يرسل ، قال الشاعر في سجاح المتنبئة : وهل كان في النساء نبية
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ولم تزل أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم
على سجاح ومن بالإفك أغرانا
وقرأ الجمهور : ( أفلا يعقلون ) بالياء رعيا لقوله : ( أفلم يسيروا ) . وقرأ الحسن وعلقمة والأعرج وعاصم وابن عامر ونافع : [ ص: 354 ] بالتاء على خطاب هذه الأمة ، تحذيرا لهم مما وقع فيه أولئك ، فيصيبهم ما أصابهم ، قال الكرماني : أفلا يعقلون أنها خير فيتوسلوا إليها بالإيمان ، انتهى . والاستيئاس من النصر ، أو من إيمان قومهم قولان . و ( حتى ) غاية لما قبلها ، وليس في اللفظ ما يكون له غاية ، فاحتيج إلى تقدير فقدره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر . وقال الزمخشري ابن عطية : ويتضمن قوله : ( أفلم يسيروا ) إلى ما قبلهم ، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) انتهى . ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد ( حتى ) غاية له ؛ لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله : ( أفلم يسيروا ) الآية . وقال : المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يدعون قومهم فكذبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل . وقال أبو الفرج بن الجوزي القرطبي في تفسيره : المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل . وقرأ أبي وعلي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والكوفيون : ( كذبوا ) بتخفيف الذال ، وباقي السبعة والأعمش والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وأبو رجاء وابن مليكة والأعرج وعائشة بخلاف عنها بتشديدها ، وهما مبنيان للمفعول ، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل ، والمعنى : أن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون . قال ابن عطية : ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال : والضمير للرسل ، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي : لما طالت المواعيد حسبت الرسل أن المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم . وعلى قراءة التخفيف فالضمير في : " وظنوا " عائد على المرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله : ( كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ولأن الرسل تستدعي مرسلا إليهم ، وفي ( أنهم ) ، وفي ( قد كذبوا ) عائد على الرسل ، والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم ، إذ لم يؤمنوا به . ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسل إليهم أي : وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب . وهذا مشهور قول ، وتأويل ابن عباس عبد الله وابن جبير ومجاهد . ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على ( الرسل ) لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله . وقال في هذه القراءة : ( حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا ) أي : كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله : رجاء صادق ورجاء كاذب . والمعنى : أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار ، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب ، انتهى . فجعل الضمائر كلها للرسل ، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله : ( الزمخشري قد كذبوا ) إما أنفسهم وإما رجاؤهم . وفي قوله إخراج الظن عن معنى الترجيح وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم ، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة . وروي عن ابن مسعود وابن عباس : أن الضمير في " وظنوا " وفي " قد كذبوا " عائد على الرسل والمعنى : كذبهم من أخبرهم عن الله ، والظن على بابه ، قالوا : والرسل بشر فضعفوا ( وساء ظنهم ) وردت وابن جبير عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل ، وأعظموا أن يوصف الرسل بهذا .
قال : إن صح هذا عن الزمخشري فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة [ ص: 355 ] وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح ، انتهى - وآخره مذهب الاعتزال - فقال ابن عباس أبو علي : إن ذهب ذاهب إلى أن المعنى : ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه ، فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالحي عباد الله قال : وكذلك من زعم أن ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدل لكلماته . وقرأ ابن عباس ابن عباس ومجاهد والضحاك : ( قد كذبوا ) بتخفيف الذال مبنيا للفاعل أي : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه ، وجواب ( إذا ) ( جاءهم نصرنا ) .
والظاهر أن الضمير في ( جاءهم ) عائد على ( الرسل ) . وقيل : عائد عليهم وعلى من آمن بهم ، وقرأ عاصم وابن عامر : ( فنجي ) بنون واحدة وشد الجيم وفتح الياء مبنيا للمفعول ، وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة بن هرمز كذلك ، إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا تدغم النون في الجيم ، وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء ، كقراءة من قرأ ( ما تطعمون أهاليكم ) بسكون الياء . ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع ، وقرأهما في المشهور ، وباقي السبعة ( فننجي ) بنونين مضارع أنجى . وقرأت فرقة : كذلك إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلط من هبيرة ، انتهى . وليست غلطا ، ولها وجه في العربية وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار ( أن ) بعد الفاء ، كقراءة من قرأ : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر ) بنصب ( يغفر ) بإضمار " أن " بعد الفاء . ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة ، أو غير جازمة . وقرأ نصر بن عاصم والحسن وأبو حيوة وابن السميقع ومجاهد وعيسى وابن محيصن : ( فنجى ) جعلوه فعلا ماضيا مخفف الجيم . وقال : وقرأت أبو عمرو الداني لابن محيصن ( فنجى ) بشد الجيم فعلا ماضيا على معنى فنجى النصر . وذكر الداني أن المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة ، وفي التحبير أن الحسن قرأ ( فننجي ) بنونين ، الثانية مفتوحة والجيم مشددة والياء ساكنة . وقرأ أبو حيوة : ( من يشاء ) بالياء أي : فنجي من يشاء الله نجاته . و ( من يشاء ) هم المؤمنون لقوله : ( ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) والبأس هنا الهلاك . وقرأ الحسن : ( بأسه ) بضمير الغائب ؛ أي : بأس الله . وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - .