[ ص: 411 ] سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها ، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها فلم يكونوا مثلهم ، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعا منهم ، ونسبة ذلك إلى الله . ولم يصرحوا بمن الله عليهم وحدهم ، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده . والمعنى : يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته . ومعنى بإذن الله : بتسويغه وإرادته ، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها ، ولا هي في استطاعتنا ، ولذلك كان التركيب : وما كان لنا ، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة . فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به ، كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قولهم ( وما لنا أن لا نتوكل على الله ) ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل على الله وقد هدانا ، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين . والأمر الأول ، وهو قوله : ( فليتوكل المؤمنون ) لاستحداث التوكل ، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم . ( ولنصبرن ) جواب قسم ، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى . و ( ما ) مصدرية ، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي . والضمير محذوف ، أي : ما آذيتموناه ، وكان أصله به ، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان ؟ وقرأ الحسن : بكسر لام الأمر في ( ليتوكل ) وهو الأصل ، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم ، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا : ليكونن أحد هذين . وتقدير أو هنا بمعنى حتى ، أو بمعنى ( إلا أن ) قول من لم ينعم النظر في ما بعدها ، لأنه لا يصح تركيب حتى ، ولا تركيب إلا أن مع قوله : ( لتعودن ) بخلاف لألزمنك ، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة . أو يكون خطابا للرسل ومن آمنوا بهم . وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم ، فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولا إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم ، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط . أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم ، وكونهم أغفالا عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل .
وقرأ أبو حيوة : ( ليهلكن الظالمين ) وليسكننكم ، بياء الغيبة ، اعتبارا بقوله : ( فأوحى إليهم ربهم ) ، إذ لفظه لفظ الغائب . وجاء ( ولنسكننكم ) بضمير الخطاب تشريفا لهم بالخطاب ، ولم يأت بضمير الغيبة ، كما في قوله : ( فأوحى إليهم ربهم ) . ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم ، أقسم تعالى على إهلاكهم . وأي إخراج أعظم من الإهلاك ، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدا ، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل . قال ابن عطية : وخص الظالمين من الذين كفروا ، إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم . وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين ، قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ; والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين ، كقوله تعالى : ( والعاقبة للمتقين ) . ومقام يحتمل المصدر والمكان . فقال الفراء : ( مقامي ) مصدر أضيف إلى الفاعل ، أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله ، ومراقبتي إياه لقوله : [ ص: 412 ] ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) . وقال : مكان وقوفه بين يدي للحساب ، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، كقوله تعالى : ( الزجاج ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ; وعلى إقحام المقام ، أي لمن خافني . والظاهر أن الضمير في ( واستفتحوا ) عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله على أعدائهم ; كقوله : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ; ويجوز أن يكون من الفتاحة ، وهي الحكومة ، أي : استحكموا الله ، طلبوا منه القضاء بينهم . واستنصار الرسل في القرآن كثير ; كقول نوح : ( فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ) ، وقول لوط : ( رب نجني وأهلي مما يعملون ) ; وقول شعيب : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ; وقول موسى : ( ربنا إنك آتيت فرعون ) الآية . وقول ابن زيد : الضمير عائد على الكفار أي : واستفتح الكفار ، على نحو ما قالت قريش : ( عجل لنا قطنا ) ; وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة . وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ; ولم يعاجلوا بالعقوبة ، ظنوا أن ما جاءوا به باطل ; فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء ; كقول قوم نوح : ( فأتنا بما تعدنا ) ; وقوم شعيب : ( فأسقط علينا كسفا ) ; وعاد : ( وما نحن بمعذبين ) ; وبعض قريش : ( فأمطر علينا حجارة ) . وقيل : الضمير عائد على الفريقين : الأنبياء ، ومكذبيهم ، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل . ويقوي عود الضمير على الرسل ، خاصة قراءة ، ابن عباس ومجاهد ، وابن محيصن : ( واستفتحوا ) بكسر التاء ، أمرا للرسل معطوفا على ( ليهلكن ) أي : أوحى إليهم ربهم ، وقال لهم : ( ليهلكن ) ، وقال لهم : ( استفتحوا ) أي : اطلبوا النصر ، وسلوه من ربكم . وقال : ويحتمل أن يكون الزمخشري أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا ، والفتح : المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد ، وأنه يسقى في جهنم ; بدل سقياه ماء آخر ، وهو صديد أهل النار . ( واستفتحوا ) على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم ; انتهى . ( وخاب ) معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا . وخاب كل جبار عنيد ، وهم قوم الرسل ، وتقدم شرح جبار . والعنيد : المعاند ، كالخليط بمعنى المخالط ، على قول من جعل الضمير عائدا على الكفار ، كأن وخاب عطفا على واستفتحوا . ومن ورائه ، قال أبو عبيدة ، أي : من بعده . وقال الشاعر : وابن الأنباري
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مهرب
وقال أبو عبيدة أيضا ، وقطرب ، ، وجماعة : و والطبري من ورائه ; أي : ومن أمامه ، وهو معنى قول : من بين يديه . وأنشد : الزمخشري
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
وهذا وصف حاله في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف . وقال الشاعر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقوم تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري . وقيل : ليس من الأضداد . وقال ثعلب : اسم لما توارى عنك ، سواء كان أمامك أم خلفك . وقيل : بمعنى من خلفه ; أي : في طلبه كما تقول الأمر من ورائك ; أي : سوف يأتيك . ويسقى معطوف على محذوف تقديره : يلقى فيها ويسقى ، أو معطوف على العامل في من ورائه ، وهو واقع موقع الصفة . وارتفاع جهنم على الفاعلية ، والظاهر إرادة حقيقة الماء [ ص: 413 ] وصديد : قال ابن عطية : هو نعت لماء ، كما تقول : هذا خاتم حديد وليس بماء ، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء . وقيل : هو نعت على إسقاط أداة التشبيه ، كما تقول : مررت برجل أسد ، التقدير : مثل صديد . فعلى قول ابن عطية : هو نفس الصديد ، وليس بماء حقيقة ، وعلى هذا القول لا يكون صديدا ، ولكنه ما يشبه بالصديد . وقال : صديد : عطف بيان لماء ; قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاما ، ثم بينه بقوله : صديد ; انتهى . والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات ، وأجازه الكوفيون وتبعهم الزمخشري الفارسي ، فأعرب ( زيتونة ) عطف بيان ( شجرة مباركة ) فعلى رأي البصريين لا يجوز أن يكون قوله : صديد عطف بيان . وقال الحوفي : صديد : نعت لماء . وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : هو ما يسيل من أجساد أهل النار . وقال محمد بن كعب والربيع : هو غسالة أهل النار في النار . وقيل : هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل : " صديد " ; بمعنى مصدود عنه ; أي : لكراهته يصد عنه ، فيكون مأخوذا عنه من الصد . وذكر من حديث ابن المبارك أبي أمامة عن الرسول قال في قوله : ( ويسقى من ماء صديد يتجرعه ) قال : " يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره " يتجرعه : يتكلف جرعه . ولا يكاد يسيغه ; أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة . والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : ( لم يكد يراها ) ; أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ والحديث : جاءنا ثم يشربه فإن صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ; أي : وما كادوا يفعلون قبل الذبح . وتجرع : تفعل ، ويحتمل هنا وجوها : أن يكون للمطاوعة ; أي : جرعه فتجرع ، كقولك : علمته فتعلم . وأن يكون للتكلف ، نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة ; نحو : تفهم ; أي : يأخذه شيئا فشيئا . وأن يكون موافقا للمجرد ; أي : تجرعه ، كما تقول : عدا الشيء وتعداه . ويتجرعه : صفة لما قبله ، أو حال من ضمير ( ويسقى ) ، أو استئناف . ويأتيه الموت ; أي : أسبابه . والظاهر أن قوله : من كل مكان ; معناه من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام . وقال : من كل مكان : من جسده ، حتى من أطراف شعره . وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أن هذا في الآخرة . وقال إبراهيم التيمي الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتا وهذا بعيد ، لأن سياق الكلام يدل على أن هذا من أحوال الكافر في جهنم . وقوله : وما هو بميت ; لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته . ومن ورائه : الخلاف في ( من ورائه ) كالخلاف في ( من ورائه جهنم ) . وقال : ومن ورائه ; ومن بين يديه عذاب غليظ ; أي : في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ . وعن الزمخشري الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد ; وقيل : الضمير ( في ورائه ) هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار .