ولكن متى يسترفد القوم أرفد
أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد . وكذلك تقدر هنا ، ولكن هم من شرح بالكفر صدرا ، أي : منهم . وأجاز الحوفي : أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون ، ومن الكاذبون . ولم يجز والزمخشري إلا أن يكون بدلا من ( الكاذبون ) ، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله . وأجاز الزجاج أن يكون بدلا من ( أولئك ) ، فإذا كان بدلا من ( الذين لا يؤمنون ) فيكون قوله : الزمخشري وأولئك هم الكاذبون جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء . وإذا [ ص: 540 ] كان بدلا من ( الكاذبون ) فالتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، وإذا كان بدلا من ( أولئك ) فالتقدير : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون .
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة . لأن الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن ، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط ، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب . وأما الثاني فيئول المعنى إلى ذلك ، إذ التقدير : وأولئك ، أي : الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون . وأما الثالث فكذلك . إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون . وقال : ويجوز أن ينتصب على الذم ; انتهى . وهذا أيضا بعيد ، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى والمناسبة ; وفي قوله : إلا من أكره ، دليل على أن من فعل المكره لا يترتب عليه شيء ، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى . وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كله مذكور في كتب الفقه . والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : الزمخشري خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وسالم ، وحبر ، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلي سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام ، وعذب بلال وهو يقول : ( أحد أحد ) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره . وجمع الضمير في ( فعليهم ) على معنى من ، وأفرد في شرح على لفظها . والظاهر أن ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب ، أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة . وقال : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم ; انتهى . وهي نزغة اعتزالية . والضمير في ( بأنهم ) عائد على ( من ) في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب ، ألزموا ذلك وإن كانوا غير مصدقين بآخره ، لكن من حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره . وقوله : استحبوا ، هو تكسب منهم علق به العقاب ، وأن الله لا يهدي : إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم ، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع ، وهذا عقيدة أهل السنة . وقيل : ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر ، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة ، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان . وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها . الزمخشري وأولئك هم الغافلون : قال : عن ما يراد منهم في الآخرة . وقال ابن عباس : الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها . ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخرة ، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم : هم الخاسرون لا غيرهم . ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم ، والعذاب الأليم ، واستحباب الدنيا ، وانتفاء هدايتهم ، والإخبار بالطبع وبغفلتهم . ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان ، وحال من أكره ، ذكر حال من هاجر بعدما فتن . قال الزمخشري ابن عطية : وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافا . وقال : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم ابن عباس بمكة أن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام . وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا ، فنزلت حينئذ ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم . وقال : نزلت في ابن إسحاق عمار ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد . قال ابن عطية : [ ص: 541 ] وذكر عمار في هذا غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب : ممن شرح بالكفر صدرا أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ؟ وقال عكرمة والحسن : نزلت في شأن وأشباهه ، فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشيطان . وقال عبد الله بن أبي سرح : ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم الزمخشري عمار وأصحابه . و ( للذين ) عند في موضع خبر إن قال : ومعنى إن ربك لهم : أنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم ، لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل : لا عليه ، فيكون محميا منفوعا غير مضرور ; انتهى . وقوله : منفوعا : اسم مفعول من نفع ، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي . وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول ، فلا يقال منفوع ; وقفت له عليه في شرحه موجز الزمخشري الرماني . وقال أبو البقاء : خبر إن الأولى قوله : إن ربك لغفور ، وإن الثانية واسمها تكرير للتوكيد ; انتهى . وإذا كانت إن الثانية واسمها تكريرا للتوكيد كما ذكر ، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر إن الأولى هو قوله : لغفور ، ويكون ( للذين ) متعلقا بقوله : لغفور ، أو برحيم ، على الإعمال ، لأن ( إن ربك ) الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب . كما أنك إذا قلت : قام قام زيد ، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى ، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى . وقيل : لا خبر لأن الأولى في اللفظ ، لأن خبر الثانية أغنى عنه ; انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدم ، ولا يجوز . وقيل : للذين ، متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل : أعني للذين ، أي : الغفران للذين . وقرأ الجمهور : فتنوا ، مبنيا للمفعول ، أي : بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر . وقرأ ابن عامر : فتنوا مبنيا للفاعل ، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار . أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم ، ويجوز أن يكون عائدا على المشركين ، أي : من بعد ما عذبوا المؤمنين ، كالحضرمي وأشباهه . والضمير في ( من ) بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة ، أي : من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر . وقال ابن عطية : والضمير في ( بعدها ) عائد على الفتنة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح .