وعن أن معنى ( ابن عباس من عطاء ربك ) من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة ، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر ، وينبو لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي . والظاهر أن ( انظر ) بصرية ; لأن التفاوت في الدنيا مشاهد ( وكيف ) في موضع نصب بعد حذف حرف الجر ; لأن نظر يتعدى به ، فانظر هنا معلقة . ولما كان النظر مفضيا وسببا إلى العلم جاز أن يعلق ، ويجوز أن يكون ( انظر ) من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو [ ص: 22 ] فعل قلبي . والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدية إلى الجنة ، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل : انظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين ، والمفضول في قوله : ( أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا .
وروي أن قوما من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان ، فقال : وإنما أتينا من قبلنا إنهم دعوا ودعينا - يعني إلى الإسلام - فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب سهيل بن عمرو عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر . وقرئ " أكثر " بالثاء المثلثة . وقال ابن عطية : وقوله : ( أكبر درجات ) ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ، ولابد ( أكبر درجات ) من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض ، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين . وأسند في ذلك حديثا نصه : الطبري إن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحدا . والخطاب في ( لا تجعل ) للسامع غير الرسول . وقال وغيره : الخطاب ل الطبري محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد لجميع الخلق . ( فتقعد ) قال : من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، بمعنى صارت . يعني فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له . انتهى . وما ذهب إليه من استعمال ( فتقعد ) بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا ، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل ، وذهب الزمخشري الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار ، وجعل من ذلك قول الراجز :
لا يقنع الجارية الخضاب ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تلتقي الأركاب
ويقعد الأير له لعاب
وحكى : قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها بمعنى صار ، ف الكسائي أخذ في الآية بقول الزمخشري الفراء ، والقعود هنا عبارة عن المكث أي : فيمكث في الناس ( مذموما مخذولا ) كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال ، ومعناه ماكث ومقيم ، وسواء كان قائما أم جالسا ، وقد يراد القعود حقيقة ; لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا ، وعبر بغالب حاله وهي القعود . وقيل : معنى ( فتقعد ) فتعجز ، والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم ، والذم هنا لاحق من الله تعالى ، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه ، ويخصه بالكرامة ، وينسب إليه الألوهية ، ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، والخذلان في هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر ، والمخذول الذي لا ينصره من يحب أن ينصره . وانتصب ( مذموما مخذولا ) على الحال ، وعند الفراء على أنه خبر لتقعد ( كلا ) لمذكرين مثنى معنى اتفاقا مفردا لفظا عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر ، مثنى لفظا عند الكوفيين ، وتبعهم والزمخشري السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها ، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم ، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقا في مشهور اللغات ، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر ، فالمشهور قلب ألفه ياء نصبا وجرا ، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه . وجاء التفريق في الشعر مضافا لظاهر ، وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاما ويستعمل تابعا توكيدا ومبتدأ ومنصوبا ومجرورا ، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحا ، وربما وجب ، وإخبار المثنى قليلا وربما وجب .