نزلت ( وإذا قرأت القرآن ) في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي [ ص: 42 ] لهب ، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن ، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه ، قاله الكلبي : وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب ، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول - صلى الله عليه وسلم - عنده ، فقالت : هجاني صاحبك ، قال : ما هو بشاعر ، قالت : قال : ( في جيدها حبل من مسد ) وما يدريه ما في جيدي ؟ فقال لأبي بكر : " سلها هل ترى غيرك ؟ فإن ملكا لم يزل يسترني عنها " فسألها ، فقالت : أتهزأ بي ما أرى غيرك ، فانصرفت ولم تر الرسول - صلى الله عليه وسلم . وقيل : نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال الله بينهم وبين أذاه .
ولما تقدم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى : وإذا شرعت في القراءة ، وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ، ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئا من القرآن : هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرئ من القرآن أي شيء كان منه ، وقيل : ثلاث آيات منه معينة ، وهي في النحل ( أولئك الذين طبع - إلى - الغافلون ) وفي الكهف ( ومن أظلم - إلى - إذا أبدا ) وفي الجاثية ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه - إلى - أفلا تذكرون ) وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن : أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم : أنه أسر زمانا ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه . قال ابن سيرين القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى ( فهم لا يبصرون ) ففي السيرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رءوس الكفار فلا يرونه ، وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحدا منهم إلا وضع على رأسه ترابا ، والظاهر أن المعنى : جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول .
وقال قتادة وجماعة ما معناه : جعلنا بين فهم ما تقرأ وبينهم ( والزجاج حجابا ) فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار ( مستورا ) على موضوعه من كونه اسم مفعول أي مستورا عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو ( مستورا ) به الرسول عن رؤيتهم . ونسب الستر إليه لما كان مستورا به ، قاله ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي : ذو لبن ، وذو تمر . وقالوا : رجل مرطوب أي : ذو رطبة ، ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي : ذو هول ، وجارية مغنوجة ، ولا يقال : هلت المكان ، ولا غنجت الجارية . وقال المبرد الأخفش وجماعة : ( مستورا ) ساترا واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول ، كما قالوا : مشئوم وميمون يريدون شائم ويامن . وقيل : مستور : وصف على جهة المبالغة ، كما قالوا : شعر شاعر ، ورد بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) تقدم تفسيره في أوائل الأنعام ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ) . قيل : قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : " يا معشر قريش ، قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم " فولوا ونفروا ، فنزلت هذه الآية . والظاهر أن الآية في حال الفارين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله ، والمعنى : إذا جاءت مواضع التوحيد فر الكفار إنكارا له واستبشاعا لرفض آلهتهم واطراحها . دخل ملأ
وقال : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد [ ص: 43 ] وعدا وعدة و ( وحده ) من باب رجع عوده على بدئه ، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسد الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحدا . انتهى . وما ذهب إليه من أن ( وحده ) مصدر ساد مسد الحال ، خلاف مذهب الزمخشري ، و ( وحده ) عند سيبويه ليس مصدرا بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فـ وحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد . وذهب سيبويه يونس إلى أن ( وحده ) منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو . وإذا ذكرت ( وحده ) بعد فاعل ومفعول نحو : ضربت زيدا فمذهب الزمخشري أنه حال من الفاعل ، أي : موحدا له بالضرب ، ومذهب سيبويه أنه يجوز أن يكون حالا من المفعول فعلى مذهب المبرد يكون التقدير ( سيبويه وإذا ذكرت ربك ) موحدا له بالذكر ، وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحدا بالذكر .
و ( نفورا ) حال جمع نافر كقاعد وقعود ، أو مصدر على غير الصدر ; لأن معنى ( ولوا ) نفروا ، والظاهر عود الضمير في ( ولوا ) على الكفار المتقدم ذكرهم . وقالت فرقة : هو ضمير الشياطين ; لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى ، وإن لم يجر لهم ذكر . وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلا الله ، ثم تلا ( وإذا ذكرت ) الآية . وقال علي بن الحسين : هو البسملة ( نحن أعلم بما يستمعون به ) أي : بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو ، كان إذا قرأ - صلى الله عليه وسلم - قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار . و بما متعلق بأعلم ، وما كان في معنى العلم والجهل ، وإن كان متعديا لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب ، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء ، تقول : ما أعلم زيدا بكذا وما أجهله بكذا ، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه ، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام ، تقول : ما أضرب زيدا لعمرو ، وزيد أضرب لعمرو من بكر ، وبه قال في موضع الحال كما تقول : يستمعون بالهزء أي : هازئين ( وإذ يستمعون ) نصب بأعلم أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون ، إذ هم ذوو نجوى ( الزمخشري إذ يقول ) بدل من ( إذ هم ) . انتهى .
وقال الحوفي : لم يقل : يستمعونه ولا يستمعونك ، لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ; ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد ( إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ) فإذ الأولى تتعلق بـ يستمعون به وكذا ( وإذ هم نجوى ) لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك ، إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ، ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى . انتهى . وقال أبو البقاء : يستمعون به . قيل : الباء بمعنى اللام ، وإذ ظرف ليستمعون الأولى ، والنجوى مصدر ، ويجوز أن يكون جمع نجي كقتيل وقتلى ، وإذ بدل من ( إذ ) الأولى . وقيل : التقدير : اذكر إذ تقول . وقال ابن عطية : الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي ، والمراد الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي : هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في ( إذ ) الأولى ، وفي المعطوف ( يستمعون ) الأولى . انتهى . تناجوا ، فقال النضر : ما أفهم ما تقول ، وقال أبو سفيان : أرى بعضه حقا ، وقال أبو جهل : مجنون ، وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب : شاعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وبعضهم : إنما يعلمه بشر ، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى [ ص: 44 ] طعام فدخل عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله . فتناجوا ، يقولون : ساحر مجنون ، والظاهر أن ( مسحورا ) من السحر أي : خبل عقله السحر . وقال مجاهد : مخدوعا نحو ( فأنى تسحرون ) أي : تخدعون . وقال أبو عبيدة : ( مسحورا ) معناه : أن له سحرا أي : رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب ، فهو مثلكم وليس بملك ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ، ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور . قال :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي : نغذى ونعلل ونسحر . قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة . وقال ابن عطية : الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين ; لأن في قولهم ضرب مثل ، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ، ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له ، و ( الأمثال ) تقدم ما قالوه في تناجيهم ، وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس ، ثم رأى الوليد بن المغيرة : أن أقربها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقا يسلكه ، فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، أو سبيلا إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال ، واتباعهم كل حيلة في جهتك .
وحكى أنها نزلت في الطبري الوليد بن المغيرة وأصحابه ( وقالوا أئذا كنا ) هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد ، لما ضربوا له الأمثال ، وقالوا عنه : إنه مسحور ، ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه ، واستبعدوا أنه بعد ما يصير الإنسان رفاتا يحييه الله ويعيده ، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا ، ومن قرأ من القراء إذا وإنا معا أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة ; لأن ذلك كان يكون تصديقا بالبعث والنشأة الآخرة ، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى . وفي الكلام حذف تقديره : إذا كنا ترابا وعظاما نبعث أو نعاد ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند سيبويه يونس ، و خلقا حال ، وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي : مخلوقا .