لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة وبإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن ، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكرا إلى آخر الدهر ورفع له قدرا به في الدنيا والآخرة ، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن ( أن يأتوا بمثل ) جميعه ، ولو تعاون الثقلان عليه ( لا يأتون بمثله ولو كان ) الجن تفعل أفعالا مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان - عليه السلام - أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز ، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن ; لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس ، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا ; لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معا لذلك .
وروي أن جماعة من [ ص: 78 ] قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت ( ولا يأتون ) جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في ( لئن ) وهي الداخلة على الشرط كقوله : ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ) فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط ، ولذلك جاء مرفوعا . فأما قول الأعشى :
لئن منيت بنا عن غب معركة لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل
فاللام في ( لئن ) زائدة وليست موطئة لقسم قبلها ، فلذلك جزم في قوله : لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط ، وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط ، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة . وذكر ابن عطية هنا فصلا حسنا في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته . قال : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ، وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا ، ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعماله ومشاهده علم ضرورة ، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم شعر الفرزدق جرير في قول وذي الرمة : الفرزدقعلام تلفتين وأنت تحتي
وفي قول جرير :
تلفت إنها تحت ابن قين
وألا ترى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله : ( حتى زرتم المقابر ) فقال : إن الزيارة تقتضي الانصراف ، ومنه علم بشار بقول في شعر أبي عمرو بن العلاء الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
ومنه قول الأعرابي . للأصمعي
من أحوج الكريم أن يقسم
فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة . انتهى . ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله : والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا .
وقال : ( ولا يأتون ) جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جوابا للشرط ، كقوله : الزمخشري
يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن الشرط وقع ماضيا . انتهى يعني بالشرط قوله ، وهو صدر البيت :
وإن أتاه خليل يوم مسألة
فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال ، وأفهم كلام أن يقول : وإن كان مرفوعا هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه ، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب الزمخشري ولمذهب الكوفيين سيبويه ; لأن مذهب والمبرد في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم ، وجواب الشرط محذوف ، ومذهب الكوفيين سيبويه أنه الجواب لكنه على حذف الفاء ، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط ، وهو الذي قال به والمبرد ، والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو . الزمخشري
وقال : والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه ، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف [ ص: 79 ] الله بالعجز ; لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلا أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة ، وقلب الحقائق . انتهى . وتكرر لفظ ( مثل ) في قوله : ( الزمخشري لا يأتون بمثله ) على سبيل التأكيد والتوضيح ، وأن المراد منهم ( أن يأتوا ) بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه ، فبين بتكرار ( بمثله ) ولم يكن التركيب ( لا يأتون ) به رفعا لهذا الاحتمال ، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن .
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردد فيه ، وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى ، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلا كافرين به وبنعمه . وقرأ الجمهور : ( صرفنا ) بتشديد الراء والحسن بتخفيفها ، والظاهر أن مفعول ( صرفنا ) محذوف تقديره البينات والعبر و ( من ) لابتداء الغاية . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة للتقدير ، ولقد ( صرفنا ) ( كل مثل ) . انتهى . يعني فيكون مفعول ( صرفنا ) ( كل مثل ) وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين ، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق ، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى .
وقال : ( من كل مثل ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه . وقال الزمخشري أبو عبد الله الرازي : ( من كل مثل ) إشارة إلى التحدي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا ، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله : ( فليأتوا بحديث مثله ) ومع ظهور عجزهم أبوا ( إلا كفورا ) . انتهى ملخصا . وقيل : ( من كل مثل ) من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين ، وذكر الجنة والنار وأكثر الناس . قيل : من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب ، وقيل : أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله : ( وقالوا لن نؤمن لك ) وتقدم القول في دخول ( إلا ) بعد ( أبى ) في سورة براءة . وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى ، فقال : " لست أطلب ذلك " . فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن ( يأتوا بمثل هذا القرآن ) فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه ، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج ، فقالوا ما حكاه الله عنهم .
وقرأ الكوفيون : ( تفجر ) من فجر مخففا ، وباقي السبعة من فجر مشددا ، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية ، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم ، روي عنهم أنهم قالوا له : أزل جبال مكة وفجر لنا ( ينبوعا ) حتى يسهل علينا الحرث والزرع ، وأحيي لنا قصيا ; فإنه كان صدوقا يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولا هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له - عليه السلام - أن ( تكون ) له ( جنة من نخيل وعنب ) وهما كانا الغالب على بلادهم ، ومن أعظم ما يقتنون ، ومعنى ( خلالها ) أي : وسط تلك الجنة وأثناءها . فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم ، وانتصب ( خلالها ) على الظرف .
وقرأ الجمهور : ( تسقط ) بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصبا ، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعا ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة ( كسفا ) بسكون السين وباقي السبعة بفتحها . وقولهم : ( والكسائي كما زعمت ) إشارة إلى قوله تعالى ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) . وقيل : ( كما زعمت ) إن ربك إن شاء فعل . وقيل : هو ما في هذه السورة من قوله ( أفأمنتم أن نخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصبا ) . قال أبو علي : ( قبيلا ) معاينة ، كقوله : ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) .
[ ص: 80 ] وقال غيره : ( قبيلا ) كفيلا من تقبله بكذا كفله ، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد . وقال : كفيلا بما تقول شاهدا لصحته ، والمعنى أو تأتي بالله ( الزمخشري قبيلا ) والملائكة ( قبيلا ) كقوله :
كنت منه ووالدي بريا وإني وقيار بها لغريب
أي : مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) أو جماعة حالا من الملائكة . وقرأ قبلا من المقابلة . وقرأ الجمهور : ( الأعرج من زخرف ) وعبد الله من ذهب ، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير . وقال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب . وقال : الزخرف الزينة ، وتقدم شرح الزخرف . ( الزجاج وفي السماء ) على حذف مضاف ، أي : في معارج السماء . والظاهر أن ( السماء ) هنا هي المظلة ، وقيل : المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء . وقال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
قيل : وقائل هذه هو ابن أبي أمية ، قال : لن نؤمن حتى تضع على السماء سلما ثم ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد ، قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات ، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحدا منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به ، أو تكون ( أو ) فيها للتفضيل أي : قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها ، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي ( في السماء ) حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم ( كتابا ) يقرءونه ، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى ، وهو أن يأتي ( بالله والملائكة قبيلا ) أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم ، فقال : ( سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) أي : ما كنت إلا بشرا رسولا أي : من الله إليكم لا مقترحا عليه ما ذكرتم من الآيات .
وقال : وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر ، كما قال عز وعلا : ( الزمخشري ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) وحين أنكروا الآية الباقية ، التي هي القرآن وسائر الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه ، بل هي أعظم لم يكن . انتهى . وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر . وقرأ ابن كثير وابن عامر ( قال سبحان ربي ) على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه ، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل ( هل كنت إلا بشرا ) مثلهم ( رسولا ) والرسل لا تأتي إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات ، وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله .