[ ص: 87 ] ( وبالحق أنزلناه ) هو مردود على قوله : ( لئن اجتمعت الإنس والجن ) الآية . وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ( أنزلناه ) عائد على موسى عليه السلام ، وجعل منزلا كما قال : ( وأنزلنا الحديد ) أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله . وقال أبو سليمان الدمشقي : ( وبالحق أنزلناه ) أي : بالتوحيد ( وبالحق نزل ) أي : بالوعد والوعيد والأمر والنهي . وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، ( وبالحق نزل ) أي : بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره . وقال : وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة ; لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين . انتهى . وقد يكون ( الزمخشري وبالحق نزل ) توكيدا من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل ، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله ، وجاء ( وبالحق نزل ) مزيلا لهذا الاحتمال ، ومؤكدا حقيقة ( وبالحق أنزلناه ) وإلى معنى التأكيد نحا . وانتصب ( مبشرا ونذيرا ) على الحال أي مبشرا لهم بالجنة ومنذرا من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين . الطبري
وقرأ الجمهور : ( فرقناه ) بتخفيف الراء أي : بينا حلاله وحرامه قاله ، وعن ابن عباس الحسن : فرقنا فيه بين الحق والباطل . وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كقوله : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) . وقرأ أبي و عبد الله و علي و ابن عباس و أبو رجاء و قتادة والشعبي و حميد و عمرو بن قائد و زيد بن علي و عمرو بن ذر و عكرمة والحسن ، بخلاف عنه بشد الراء أي أنزلناه نجما بعد نجم . وفصلناه في النجوم . وقال بعض من اختار ذلك : لم ينزل في يوم ولا يومين ، ولا شهر ولا شهرين ، ولا سنة ولا سنتين . قال : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، هكذا قال ابن عباس عن الزمخشري . وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة . وقيل : في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام ، وعن ابن عباس الحسن نزل في ثمانية عشر سنة . قال ابن عطية : وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن .
وقيل معنى : ( فرقناه ) بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي . وانتصب ( قرآنا ) على إضمار فعل يفسره ( فرقناه ) أي : وفرقنا قرآنا فرقناه ، فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ، ورجحه على الرفع كونه عطفا على جملة فعلية ، وهي قوله : ( وما أرسلناك ) . ولا بد من تقدير صفة لقوله : ( وقرآنا ) حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء ; لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها ، والتقدير ( وقرآنا ) أي قرآن أي : عظيما جليلا ، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرجه الحوفي . وقال والزمخشري ابن عطية وهو مذهب . وقال سيبويه الفراء : هو منصوب بأرسلناك أي وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا كما تقول رحمة ; لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفا منه قول ابن عطية ، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في ( أرسلناك ) من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحدا .
وقرأ أبي وعبد الله ( فرقناه ) عليك بزيادة عليك و ( لتقرأه ) متعلق بفرقناه ، والظاهر تعلق على مكث بقوله : ( لتقرأه ) ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ; لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال أي : متمهلا مترسلا .
قال ابن عباس و مجاهد و ابن جريج : ( على مكث ) على ترسل في التلاوة . وقيل : ( على مكث ) [ ص: 88 ] أي : تطاول في المدة شيئا بعد شيء . وقال الحوفي : ( على مكث ) بدل من ( على الناس ) وهذا لا يصح ; لأن قوله : ( على مكث ) هو من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القارئ ، أو صفات المقروء في المعنى ، وليس من صفات الناس فيكون بدلا منهم . وقيل : يتعلق ( على مكث ) بقوله : ( فرقناه ) ويقال : مكث بضم الميم وفتحها وكسرها . وقال ابن عطية : وأجمع القراء على ضم الميم من ( مكث ) . وقال الحوفي : والمكث بالضم والفتح لغتان ، وقد قرئ بهما ، وفيه لغة أخرى كسر الميم .
( ونزلناه تنزيلا ) على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال . ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ) يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه ، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن ، وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيرا منهم وأفضل هم العلماء الذي قرءوا الكتاب ، وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم ، فإذا تلي عليهم خروا ( سجدا ) وسبحوا الله تعظيما لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة ، وبشر به من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله : ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) .
و ( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) يجوز أن يكون تعليلا لقوله : ( آمنوا به أو لا تؤمنوا ) أي : إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم ، وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية ، كأنه قيل : ( قل ) عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء . انتهى من كلام ، وفيه بعض تلخيص . وقال غيره : ( الزمخشري قل آمنوا ) الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أآمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم . انتهى . والظاهر أن الضمير في ( قل آمنوا به ) عائد على القرآن ، و ( الذين أوتوا العلم ) هم مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : ورقة بن نوفل ، و زيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما ، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطلعا على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام . وقيل : هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم ، فتذكروا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل عليه . وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله ، وقالوا : هذا وقت نبوة المذكور في التوراة وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة ، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح ، فنزلت هذه الآية فيهم .
وقيل : المراد بالذين ( أوتوا العلم من قبله ) هو محمد - صلى الله عليه وسلم - والظاهر أن الضمير في ( به ) وفي ( من قبله ) عائدان على الرسول عليه الصلاة والسلام .
واستأنف ذكر القرآن في قوله : ( إذا يتلى عليهم ) والظاهر في قوله : ( إذا يتلى عليهم ) أن الضمير في ( يتلى ) عائد على القرآن ، وقيل : هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبي عليه الصلاة والسلام ، والخرور هو السقوط بسرعة ، ومنه ( فخر عليهم السقف ) وانتصب ( سجدا ) على الحال ، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع ، وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن ، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه . وقال الشاعر :
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم سباع من الطير العوادي وتنتف
وقيل : أريد حقيقة الأذقان ; لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك . وقال : المعنى للوجوه . ابن عباس
وقال : فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه ؟ قال : الزمخشري
فخر صريعا لليدين وللفم
قلت : معناه جعل ذقنه [ ص: 89 ] ووجهه للخرور ، واختصه به ; لأن اللام للاختصاص . انتهى . وقيل : اللام بمعنى على و ( سبحان ربنا ) نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلا وأنه لا يعيدهم للجزاء ، وإن هنا المخففة من الثقيلة المعنى إن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه ، ونكر الخرور ; لاختلاف حالي السجود والبكاء ، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم ، وعن الحالة الثانية بالفعل ; لأن الفعل مشعر بالتجدد ، وذلك أن البكاء ناشئ عن التفكر ، فهم دائما في فكرة وتذكر ، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم .
( ويزيدهم ) أي : ما تلي عليهم ( خشوعا ) أي : تواضعا . وقال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه : لأنه تعالى نعت العلماء ، فقال : ( إن الذين أوتوا العلم ) الآية . وقال ابن عطية : ويتوجه في هذه الآية معنى آخر ، وهو أن يكون قوله : ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ) مخلصا للوعيد دون التحقير ، المعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي : إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر ، بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا . انتهى . وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا .