ولما أقام تعالى أقسم على ذلك باسمه مضافا إلى رسوله تشريفا له وتفخيما ، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيما لحقه ورفعا منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله ( الحجة الدامغة على حقية البعث فورب السماء والأرض إنه لحق ) والواو في ( والشياطين ) للعطف أو بمعنى ( مع ) يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ، وهذا إذا كان الضمير في ( لنحشرنهم ) للكفرة وهو قول ابن عطية ، وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم ، وبدأ به ، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ، ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء ، وأحضروا جميعا وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار ، وإذا كان الضمير عاما فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب . وقال تعالى في حالة الموقف ( الزمخشري وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها ) و ( جثيا ) حال مقدرة - وعن : قعودا ، وعنه جماعات - جمع ( جثوة ) وهو المجموع من التراب والحجارة . وقال ابن عباس مجاهد والحسن : على الركب . وقال والزجاج قياما على الركب لضيق المكان بهم . السدي
وقرأ حمزة والكسائي وحفص ( جثيا ) و ( عتيا ) و ( صليا ) بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها ( ثم لننزعن ) ، أي : لنخرجن كقوله ( ونزع يده ) . وقيل : لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم ، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب . قال أبو الأحوص : يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما . وقال : يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، والضمير في ( أيهم ) عائد على المحشورين المحضرين . وقرأ الجمهور ( أيهم ) بالرفع وهي حركة بناء على مذهب الزمخشري ، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة : و ( أشد ) خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة لأيهم ، وحركة إعراب على مذهب سيبويه الخليل ويونس على اختلاف في التخريج . و ( أيهم أشد ) مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل ، أي : الذين يقال فيهم ( أيهم أشد ) . وفي موضع نصب فيعلق عنه ( لننزعن ) على مذهب يونس ، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو . وقال : ويجوز أن يكون النزع واقعا على ( الزمخشري من كل شيعة ) كقوله ( ووهبنا لهم من رحمتنا ) ، أي : لننزعن بعض ( كل شيعة ) فكأن قائلا قال : من هم ؟ فقيل إنهم أشد عتيا ؛ انتهى . فتكون ( أيهم ) موصولة خبر مبتدأ محذوف ، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين ، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر :
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت يقال في : لا حرج ولا محروم ، ورجح قول الزجاج الخليل ، وذكر عنه النحاس أنه غلط في هذه المسألة . قال سيبويه : ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له ، قيل وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة ، وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة . ومذهب سيبويه أن معنى ( لننزعن ) لننادين فعومل معاملته فلم تعمل في ( أي ) . انتهى . ونقل هذا عن الكسائي الفراء . قال المهدوي : ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ . وقال : ( أيهم ) متعلق بشيعة ، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا ( المبرد أيهم أشد ) كأنهم يتبادرون إلى هذا ، ويلزم أن يقدر مفعولا ( لننزعن ) محذوفا ، وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا ( أيهم ) ، أي : من الذين تعاونوا فنظروا ( أيهم أشد ) . قال النحاس : وهذا قول حسن . وقد حكى [ ص: 209 ] أن التشايع هو التعاون . الكسائي
وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول : في ( أيهم ) معنى الشرط ، تقول : ضربت القوم أيهم غضب ، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا ، فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد . وقرأ طلحة بن مصرف أستاذ ومعاذ بن مسلم الهراء الفراء وزائدة عن ( أيهم ) بالنصب مفعولا بـ ( لننزعن ) ، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب الأعمش أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها ، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب . قال سيبويه : خرجت من أبو عمرو الجرمي البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول لأضربن أيهم قائم ، بالضم ، بل بنصبها انتهى . وقال : وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ أبو جعفر النحاس ، وسمعت سيبويه أبا إسحاق يعني يقول : ما تبين أن الزجاج غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما . قال : وقد أعرب سيبويه ( أيا ) وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة ؟ . سيبويه
و ( على الرحمن ) متعلق بأشد . و ( عتيا ) تمييز محول من المبتدأ تقديره : أيهم هو عتوه ( أشد على الرحمن ) وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب ، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذابا . وفي الحديث : " إنه تبدو عنق من النار فتقول : إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم " . وفي بعض الآثار : " يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر " . قال : ( عتيا ) جراءة . وقال ابن عباس مجاهد : فجرا . وقيل : افتراء بلغة تميم . وقيل : ( عتيا ) جمع عات فانتصابه على الحال .
( ثم لنحن أعلم ) ، أي : نحن في ذلك النزع لا نضع شيئا غير موضعه ، لأنا قد أحطنا علما بكل واحد فأولى بصلي النار نعلمه . قال : أولى بالخلود . وقال ابن جريج الكلبي ( صليا ) دخولا . وقيل : لزوما . وقيل : جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى . والواو في قوله ( وإن منكم ) للعطف . وقال ابن عطية : ( وإن منكم إلا واردها ) قسم والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " . انتهى . وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن ، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا . وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم ؛ لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ، ولا يجوز ذلك إلا إن وقع في شعر أو نادر كلام ، بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم : نعم السير على بئس العير ، أي : على عير بئس العير . وقول الشاعر : من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم
والله ما زيد بنام صاحبه
أي برجل نام صاحبه . وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه .
وقرأ الجمهور ( منكم ) بكاف الخطاب ، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم ، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو ؛ لأن الصراط ممدود عليها . وعن الجواز على الصراط : قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله ( ابن عباس ولما ورد ماء مدين ) ووردت القافلة البلد ولم تدخله ، ولكن قربت منه أو وصلت إليه . قال الشاعر :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
وتقول العرب : وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم ، وليس يراد به الماء بعينه . وقيل : الخطاب للكفار ، أي : قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول ، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين ، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا لشناعة قولهم أن المؤمنين يدخلون النار [ ص: 210 ] وإن لم تضرهم .
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم : بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر . وقال : ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بين ، واسم ( كان ) مضمر يعود على الورود ، أي : كان ورودهم حتما ، أي : واجبا قضي به . وقرأ الجمهور ( ثم ) بحرف العطف وهذا يدل على أن الورود عام . وقرأ الزمخشري عبد الله وابن عباس وأبي وعلي والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ( ثم ) بفتح الثاء ، أي : هناك ، ووقف ( ثمه ) بهاء السكت . وقرأ الجمهور : ( ننجي ) بفتح النون وتشديد الجيم . وقرأ ابن أبي ليلى يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم .
وقرأت فرقة ( نجي ) بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة . وقرأ علي : ( ننحي ) بحاء مهملة مضارع نحى ، ومفعول ( اتقوا ) محذوف ، أي : الشرك والظلم هنا ظلم الكفر .
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه ، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رءوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس ، فقالوا للمؤمنين : ( أي الفريقين خير مقاما ) ، أي : منزلا وسكنا ( وأحسن نديا ) ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا ، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله . وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن ( يتلى ) بالياء والجمهور بالتاء من فوق ، كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول الكافر : إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق ، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ، ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة .
ومعنى ( بينات ) مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججا وبراهين . و ( بينات ) حال مؤكدة ؛ لأن آياته تعالى لا تكون إلا بهذا الوصف دائما . وقرأ الجمهور ( مقاما ) بفتح الميم . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمرو بضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدرا أو موضع قيام أو إقامة ، وانتصابه على التمييز . ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالا منهم في الدنيا تنبيها على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم ، واتعاظا لهم إن كانوا ممن يتعظ ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري ، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل . و ( من قرن ) تبيين لكم و ( كم ) مفعول بأهلكنا .
وقال : و ( الزمخشري هم أحسن ) في محل النصب صفة لـ ( كم ) . ألا ترى أنك لو تركت ( هم ) لم يكن لك بد من نصب ( أحسن ) على الوصفية . انتهى . وتابعه أبو البقاء على أن ( هم أحسن ) صفة لكم ، ونص أصحابنا على أن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها ، فعلى هذا يكون ( هم أحسن ) في موضع الصفة لقرن ، وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ، ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربيا فصار كلفظ جميع . قال ( لما جميع لدينا محضرون ) وقال : ( نحن جميع منتصر ) فوصفه بالجمع وبالمفرد وتقدم تفسير الأثاث في سورة النحل .
وقرأ الجمهور ( ورئيا ) بالهمز من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي . وقال : الرئي المنظر . وقال ابن عباس الحسن : معناه صورا . وقال الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيوب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون ، وريا بتشديد الياء من غير همز ، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر سهلت همزته بإبدالها ياء ثم أدغمت الياء في الياء ، واحتمل أن يكون من الري ضد العطش ؛ لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحسن ، كما له منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقابل . وقرأ أبو بكر في رواية عن الأعمش عاصم وحميد ( وريئا ) بياء ساكنة بعدها همزة [ ص: 211 ] وهو على القلب ووزنه فلعا ، وكأنه من راء . قال الشاعر :
وكل خليل رآني فهو قائل من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
وقرئ ورياء بياء بعدها ألف بعدها همزة ، حكاها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة ، أي : يري بعضهم بعضا حسنه . وقرأ ، فيما روى عنه ابن عباس طلحة ( وريا ) من غير همز ولا تشديد ، فتجاسر بعض الناس وقال : هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء ، وقلب فصار ( ورئيا ) ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت ، أو بأن تكون من الري وحذفت إحدى الياءين تخفيفا كما حذفت في لا سيما ، والمحذوفة الثانية ؛ لأنها لام الكلمة ؛ لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف . وقرأ أيضا ابن عباس وابن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي ( وزيا ) بالزاي مشدد الياء وهي البزة الحسنة ، والآلات المجتمعة المستحسنة .