[ ص: 229 ] ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، كما قال تعالى ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) فقال تعالى : ( وهل أتاك حديث موسى ) وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي . وقيل : ( هل ) بمعنى قد ، أي : قد ( أتاك ) ، والظاهر خلاف هذا ؛ لأن السورة مكية . والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا . وقيل : إنه استفهام معناه النفي ، أي : ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى ، ونحن الآن قاصون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه - عليه السلام - لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له ، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره ، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل فلا يدري أليلا تضع أم نهارا ، فسار في البرية لا يعرف طرقها ، فألجأه [ ص: 230 ] المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور . قيل : كان رجلا غيورا يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا لئلا ترى امرأته ، فأضل الطريق .
قال وهب : ولد له ابن في الطريق ، ولما صلد زنده ( رأى نارا ) . والظاهر أن ( إذ ) ظرف للحديث لأنه حدث . وأجاز أن تكون ظرفا لمضمر ، أي : ( نارا ) كان كيت وكيت ، وأن تكون مفعولا لأذكر ( الزمخشري امكثوا ) ، أي : أقيموا في مكانكم ، وخاطب امرأته وولديه والخادم . وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية ( لأهله امكثوا ) بضم الهاء وكذا في القصص ، والجمهور بكسرها ( إني آنست ) ، أي : أحسست ، والنار على بعد لا تحس إلا بالبصر ، فلذلك فسره بعضهم برأيت ، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول : آنست من فلان خيرا . وقال : الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء ، والإنس لظهورهم ، كما قيل الجن لاستتارهم . وقيل : هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس ، فكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعل ، ولم يقطع فيقول : إني آتيكم ، لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى . والظاهر أنه رأى نورا حقيقة . الزمخشري
وقال الماوردي : كانت عند موسى ( نارا ) وكانت عند الله نورا . قيل : وخيل له أنه نار . قيل : ولا يجوز هذا ؛ لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولفظة ( على ) هاهنا على بابها من الاستعلاء ، ومعناه أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى :
وبات على النار الندى والمحلق
وقال : على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء ، وذكر ابن الأنباري أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء ، وانتصب ( هدى ) على أنه مفعول به على تقدير محذوف ، أي : ذا ( هدى ) أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق . وقيل : ( هدى ) في الدين قاله الزجاج مجاهد وقتادة وهو بعيد ، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق .
والضمير في ( أتاها ) عائد على النار ، أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب ، قاله . وقيل : سمرة قاله ابن عباس عبد الله . وقيل : عوسج قاله وهب . وقيل : عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي ، وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته ، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة ، ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و ( نودي ) وهو تكليم الله إياه . وقرأ الجمهور : ( إني ) بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين . و ( أنا ) مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب ، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : أني بفتح الهمزة ، والظاهر أن التقدير بأني ( أنا ربك ) . وقال ابن عطية : على معنى لأجل إني أنا ربك فاخلع نعليك ، و ( نودي ) قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي :
ناديت باسم ربيعة بن مكدم إن المنوه باسمه الموثوق
انتهى . وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة ، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلا بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال : لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز ، قالوا : ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري ؛ لأنه ينافي في التكليف ، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع . وقيل : كانتا من [ ص: 231 ] جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما . وفي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت " . قال : هذا حديث غريب ، والكمة القلنسوة الصغيرة ، وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول " كان على عكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والكلبي والضحاك . وقيل : كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس ، وتمس قدماه تربته وروي أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي . و ( المقدس ) المطهر و ( طوى ) اسم علم عليه فيكون بدلا أو عطف بيان .
وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منونا . وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا . وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون . وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون . وقرأ عيسى بن عمر والضحاك " طاوي اذهب " فمن نون فعلى تأويل المكان ، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولا عن فعل نحو زفر وقثم ، أو أعجميا أو على معنى البقعة ، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة . وقال الحسن : ( طوى ) بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه ؛ وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره ، فكذلك الطوى على هذه القراءة . وقال قطرب ( طوى ) من الليل ، أي : ساعة ، أي : قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل ، فلحق الوادي تقديس محدد ، أي : ( إنك بالواد المقدس ) ليلا . قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره ، وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة .
وقرأ السلمي وابن هرمز في رواية ( وإنا ) والألف عطفا على ( والأعمش إني أنا ربك ) لأنهم كسروا ذلك أيضا ، والجمهور ( وأنا اخترتك ) بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه . وقرأ أبي ( وأني ) بفتح الهمزة وياء المتكلم ( اخترتك ) بتاء عطفا على ( إني أنا ربك ) ومفعول ( اخترتك ) الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك . والظاهر أن ( لما يوحى ) من صلة استمع وما بمعنى الذي .
وقال وغيره : ( الزمخشري لما يوحى ) للذي يوحى أو للوحي ، فعلق اللام باستمع أو باخترتك . انتهى . ولا يجوز التعليق باخترتك ؛ لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني .
وقال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه : ( استمع لما يوحى ) وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفا . وقال وهب : أدب الاستماع : سكون الجوارح ، وغض البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور العقل ، والعزم على العمل . وذلك هو الاستماع لما يحب الله ، وحذف الفاعل في ( يوحى ) للعلم به ويحسنه كونه فاصلة ، فلو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة ، والموحى قوله ( إني أنا الله ) إلى آخره معناه وحدني كقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) إلى آخر الجمل ، جاء ذلك تبيينا وتفسيرا للإبهام في قوله ( لما يوحى ) . وقال المفسرون ( فاعبدني ) هنا وحدني كقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) معناه ليوحدون ، والأولى أن يكون ( فاعبدني ) لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة ، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة ، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل ، أي : ليذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي ، أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار ، أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول ، أي لأن أذكرك بالمدح والثناء [ ص: 232 ] وأجعل لك لسان صدق أو لأن تذكرني خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر ، أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به ، كما قال ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) واللام على هذا القول مثلها في قوله ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام : . " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "
قال : وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذكرها " . ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله ، أو بتقدير حذف المضاف ، أي : لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله - عز وجل - في الحقيقة . انتهى . وفي الحديث بعد قوله : " الزمخشري " قوله " إذ لا كفارة لها إلا ذلك " ثم قرأ ( فليصلها إذا ذكرها وأقم الصلاة لذكري ) . وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء : ( للذكرى ) بلام التعريف وألف التأنيث ، فالذكرى بمعنى التذكرة ، أي : لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها . وقرأت فرقة لذكرى بألف التأنيث بغير لام التعريف . وقرأت فرقة : للذكر .
ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء ، فقال ( إن الساعة آتية ) وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثوابا وإما عقابا . وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ( أخفيها ) بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها ، أي : إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء ، أي : أظهرته . وقال الشاعر :
خفاهن من إيقانهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
وقال آخر :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن توقدوا الحرب لا نقعد
ولام ( لتجزى ) على هذه القراءة متعلقة بأخفيها ، أي : أظهرها ( لتجزى ) كل نفس . وقرأ الجمهور ( أخفيها ) بضم الهمزة وهو مضارع أخفى بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة ، أي : أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر ، كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة . وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال ( إن الساعة آتية ) لتجزى . انتهى ، ولا يتم ذلك إلا إذا قدرنا ( أكاد أخفيها ) جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لـ ( آتية ) فلا يجوز ذلك على رأي البصريين ؛ لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله . وقيل : ( أخفيها ) بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد ، وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و ( أكاد ) من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها ، وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس ، بالغ في إبهام وقتها ، فقال ( أكاد أخفيها ) حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها . وقالت فرقة ( أكاد ) بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها ، وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم . قال أبو مسلم : ومن أمثالهم : لا أفعل ذلك ، ولا أكاد ، أي : لا أريد أن أفعله . وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره ( أكاد ) أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابئ البرجمي :
[ ص: 233 ]
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل . وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس . وقالت فرقة : معناه ( أكاد أخفيها ) من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن . ابن عباس
ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي . وقالت فرقة ( أكاد ) زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى ( لم يكد يراها ) وبقول الشاعر وهو زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس
وبقول الآخر :
وأن لا ألوم النفس مما أصابني وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح
ولا حجة في شيء من هذا . وقال : ( الزمخشري أكاد أخفيها ) فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وقيل : معناه ( أكاد أخفيها ) من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح . والذي غرهم منه أن في مصحف أبي ( أكاد أخفيها ) من نفسي وفي بعض المصاحف ( أكاد أخفيها ) من نفسي فكيف أظهركم عليها . انتهى . ورويت هذه الزيادة أيضا عن أبي ، ذكر ذلك ابن خالويه . وفي مصحف عبد الله ( أكاد أخفيها ) من نفسي فكيف يعلمها مخلوق . وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كدت أخفيه من نفسي ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره . وقال الشاعر :
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في ( أخفيها ) عائد على ( الساعة ) و ( الساعة ) يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل . والظاهر أن الضمير في ( عنها ) و ( بها ) عائد على الساعة . وقيل : على الصلاة . وقيل ( عنها ) عن الصلاة و ( بها ) ، أي : بالساعة ، وأبعد جدا من ذهب إلى أن الضمير في ( عنها ) يعود على ما تقدم من كلمة ( لا إله إلا أنا فاعبدني ) .
والظاهر أن الخطاب في ( فلا يصدنك ) لموسى - عليه السلام - ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة ، فينبغي أن يكون لفظا وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه ، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لفظا ولأمته معنى .
وقال : فإن قلت : العبارة أنهى من لا يؤمن عن صد الزمخشري موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق . قلت : فيه وجهان .
أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب .
والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا . المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلا على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ( فتردى ) يجوز أن يكون منصوبا على جواز النهي وأن يكون مرفوعا ، أي : فأنت تردى . وقرأ يحيى ( فتردى ) بكسر التاء .
( وما تلك بيمينك يا موسى ) هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في [ ص: 234 ] نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و ( ما ) استفهام مبتدأ و ( تلك ) خبره و ( بيمينك ) في موضع الحال كقوله ( وهذا بعلي شيخا ) والعامل اسم الإشارة . قال : ويجوز أن يكون ( تلك ) اسما موصولا صلته بيمينك ، ولم يذكر الزمخشري ابن عطية غيره ، وليس ذلك مذهبا للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولا حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك ؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفا كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك ؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - استئناس عظيم وتشريف كريم .
( قال هي عصاي ) . وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري ( عصي ) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم . وقرأ الحسن ( عصاي ) بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضا وأبي عمرو معا ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين . وعن أبي إسحاق والجحدري ( عصاي ) بسكون الياء . ( أتوكأ عليها ) ، أي : أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء " " ، في جواب من سأل أنتوضأ بماء البحر ؟ وكما جاء في جواب هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر
وحكمة زيادة موسى - عليه السلام - رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر :
وأملى عتابا يستطاب فليتني أطلت ذنوبا كي يطول عتابه
وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلا في قوله ( أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) وإجمالا في قوله ( ولي فيها مآرب أخرى ) . وقيل : ( أتوكأ عليها ) جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال ( هي عصاي ) قال له تعالى فما تصنع بها ؟ قال : ( أتوكأ عليها ) الآية . وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله ( وما تلك ) وبقوله ( بيمينك ) عما يملكه ، فأجابه عن ( وما تلك ) ؟ بقوله ( هي عصاي ) وعن قوله ( بيمينك ) بقوله ( أتوكأ عليها وأهش ) إلى آخره انتهى . وفي التحقيق ليس قوله ( بيمينك ) بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله ( أتوكأ عليها ) ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله ( وأهش ) .
وقرأ الجمهور ( وأهش ) بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء ، والمفعول محذوف وهو الورق . قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي : أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان . انتهى . وقرأ الحسن وعكرمة : وأهس بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات . ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأهس بضم الهمزة من أهس رباعيا ، وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد ( وأهش ) بضم الهاء وتخفيف الشين ، قال : ولا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى العامة ، لكن فر من قراءته من التضعيف ؛ لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي . فيكون كتخفيف ( ظلت ) ونحوه . وذكر عن النخعي أنه قرأ ( وأهش ) بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعيا قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته . ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى ، فقال : ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ؛ ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة [ ص: 235 ] كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى ، المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها ، وقالوا اسم العصا نبعة انتهى . الزمخشري
وقرأت فرقة ( غنمي ) بسكون النون وفرقة ( على غنمي ) بإيقاع الفعل على الغنم .
والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .
وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب . وكانت تقيه الهوام ، ويرد بها غنمه ، وإن بعدوا وهذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية ، هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى - عليه السلام - وعامل المآرب وإن كان جمعا معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ، ولم يقل آخر رعيا للفواصل ، وهي جائز في غير الفواصل . وكان أجود وأحسن في الفواصل .
وقرأ الزهري وشيبة : ( مارب ) بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ، ويعني - والله أعلم - بغير همز محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين .
( قال ألقها ) الظاهر أن القائل هو الله تعالى ، ويبعد قول من قال : يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى ( ألقها ) اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى ، والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله ( فلما رآها تهتز كأنها جان ) وبين كونها ثعبانا ؛ لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعبانا ، أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها . قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فما وبين لحييها أربعون ذراعا .
وعن : انقلبت ثعبانا تبتلع الصخر والشجر ، والمحجن عنقا وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول . ومعنى ( تسعى ) تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها ابن عباس لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت ، إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقي تكاليف النبوة ومشاق الرسالة ، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ، ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبرا ولم يعقب . وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها . وقيل : لما قال له الله ( لا تخف ) بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره في تفسيره أنه قيل له : خذ مرة وثانية حتى قيل له ( مكي خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) فأخذها في الثالثة ؛ لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير ، كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة . وقيل : سير الأولين . وقال الشاعر :
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها
واختلفوا في إعراب ( سيرتها ) فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل ( واختار موسى قومه ) [ ص: 236 ] يعني : إلى سيرتها . قال : ويجوز أن يكون بدلا من مفعول ( سنعيدها ) . وقال هذا الثاني أبو البقاء ، قال : بدل اشتمال ، أي : صفتها وطريقتها . وقال : يجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : ( سنعيدها ) في طريقتها الأولى ، أي : في حال ما كانت عصا انتهى . وسيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بواسطة في ، ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولا من عاده بمعنى عاد إليه . ومنه بيت الزمخشري زهير :
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين انتهى . وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي . قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون ( سنعيدها ) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ، ونصب ( سيرتها ) بفعل مضمر ، أي : تسير ( سيرتها الأولى ) يعني ( سنعيدها ) سائرة ( سيرتها الأولى ) حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها . انتهى .
والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد ، وعلى العضد ، وعلى جنب الرجل . وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر ؛ لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرعوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه ، أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ؛ ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد . والمراد إلى جنبك تحت العضد . ولهذا قال ( تخرج ) فلو لم يكن دخول لم يكن خروج ، كما قال في الآية الأخرى ( وأدخل يدك في جيبك تخرج ) وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم ، وإنما يترتب على الإخراج ، والتقدير ( واضمم يدك إلى جناحك ) تنضم وأخرجها ( تخرج ) فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو ( اضمم ) لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى .
( تخرج بيضاء من غير سوء ) قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب ( بيضاء ) على الحال ، والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة ، وكما كنوا عن جذيمة ، وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه . وقوله ( من غير سوء ) متعلق ببيضاء ، كأنه قال ابيضت ( من غير سوء ) . وقال الحوفي : ( من غير سوء ) في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى . ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس ؛ لأنه لو اقتصر على قوله ( بيضاء ) لأوهم أن ذلك من برص أو بهق . وانتصب ( آية ) على الحال ، وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد . وأجاز أن يكون منصوبا على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ ؛ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ، ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز الزمخشري أبو البقاء والحوفي أن يكون ( آية ) بدلا من ( بيضاء ) وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في ( بيضاء ) ، أي : تبيض ( آية ) . وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها ( آية ) أو آتيناك ( آية ) .
واللام في ( لنريك ) قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج . وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه ( آية ) ، أي : دللنا بها ( لنريك ) . وقال : ( الزمخشري لنريك ) ، أي : خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض ( آياتنا الكبرى ) أو ( لنريك ) بهما ( الكبرى ) من ( آياتنا ) أو ( لنريك من آياتنا الكبرى ) فعلنا ذلك ، ونعني أنه جاز أن يكون مفعول ( لنريك ) الثاني ( الكبرى ) أو يكون ( من آياتنا ) في موضع المفعول الثاني . وتكون ( الكبرى ) صفة لآياتنا على حد ( الأسماء الحسنى ) و ( مآرب أخرى ) بجريان مثل هذا [ ص: 237 ] الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء . والذي نختاره أن يكون ( من آياتنا ) في موضع المفعول الثاني ، و ( الكبرى ) صفة لآياتنا ؛ لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبر ؛ لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه ( الكبرى ) . وإذا جعلت ( الكبرى ) مفعولا لم تتصف الآيات بالكبر ؛ لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضا إذا جعلت ( الكبرى ) مفعولا فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معا ؛ لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما ، فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما ؛ لأن كلا منهما فيها معنى التفضيل . ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا ؛ لأنه ذكر عقيب اليد ( لنريك من آياتنا الكبرى ) لأنه جعل ( الكبرى ) مفعولا ثانيا ( لنريك ) وجعل ذلك راجعا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء ، وقد ضعف قوله هذا ؛ لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون ، وأما العصا ففيها تغيير اللون ، وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارا فكانت أعظم من اليد .
ولما أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولا من عنده تعالى وعلل حكمة الذهاب إليه بقوله ( إنه طغى ) وخص فرعون وإن كان مبعوثا إليهم كلهم ؛ لأنه رأس الكفر ومدعي الإلهية وقومه تباعه . قال : قال الله وهب بن منبه لموسى - عليه السلام - اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي . وقل له قولا لينا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى - عليه السلام - سبعة أيام . وقيل : أكثر ، فجاءه ملك فقال أنفذ ما أمرك ربك .