في الكلام محذوف تقديره : فلما رجعوا من عيدهم إلى آلهتهم ورأوا ما فعل بها استفهموا على سبيل البحث والإنكار فقالوا : ( من فعل هذا ) أي التكسير والتحطيم إنه لظالم في اجترائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير ( قالوا ) أي قال الذين سمعوا قوله ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) ( يذكرهم ) أي بسوء . قال الفراء : يقول الرجل للرجل لئن ذكرتني لتندمن أي بسوء . قال : فإن قلت : ما حكم الفعلين بعد ( الزمخشري سمعنا فتى ) وأي فرق بينهما ؟ قلت : هما صفتان [ ص: 324 ] لفتى إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع لأنك لا تقول : سمعت زيدا وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع ، وأما الثاني فليس كذلك . انتهى .
وأما قوله : هما صفتان فلا يتعين ذلك لما أذكره أما سمع فإما أن يدخل على مسموع أو غيره إن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو : سمعت كلام زيد ومقالة خالد ، وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها . فقيل : إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي ، ويكون الثاني مما يدل على صوت فلا يقال سمعت زيدا يركب ، ومذهب غيره أن سمع يتعدى إلى واحد والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة ، وكلا المذهبين يستدل لهما في علم النحو فعلى هذا المذهب الآخر يتمشى قول أنه صفة لفتى ، وأما على مذهب الزمخشري أبي علي فلا يكون إلا في موضع المفعول الثاني لسمع .
وأما ( يقال له إبراهيم ) فيحتمل أن يكون جوابا لسؤال مقدر لما قالوا ( سمعنا فتى يذكرهم ) وأتوا به منكرا قيل : من يقال له فقيل له إبراهيم ، وارتفع ( إبراهيم ) على أنه مقدر بجملة تحكى بقال ، إما على النداء أي ( يقال له ) حين يدعى يا ( إبراهيم ) وإما على خبر مبتدأ محذوف أي هو ( إبراهيم ) أو على أنه مفرد مفعول لما لم يسم فاعله ، ويكون من الإسناد للفظ لا لمدلوله ، أي يطلق عليه هذا اللفظ وهذا الآخر هو اختيار الزمخشري وابن عطية ، وهو مختلف في إجازته فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى تجويز نصب القول للمفرد مما لا يكون مقتطعا من جملة نحو قوله :
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
ولا مفردا معناه معنى الجملة نحو قلت : خطبة ولا مصدرا نحو قلت قولا ، ولا صفة له نحو : قلت حقا بل لمجرد اللفظ نحو قلت زيدا . ومن النحويين من منع ذلك وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلان زيدا ولا قال ضرب ولا قال ليت ، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل وذهب الأعلم إلى أن إبراهيم ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه ، إذ القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم : واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير ، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ، والكلام على مذهب الأعلم وإبطاله مذكور في النحو .
( قالوا فأتوا ) أي أحضروه ( على أعين الناس ) أي معاينا بمرأى منهم فعلى أعين الناس في موضع الحال و ( على ) معناها الاستعلاء المجازي كأنه لتحديقهم إليه وارتفاع أبصارهم لرؤيته مستعل على أبصارهم ( لعلهم يشهدون ) عليه بما سمع منه أو بما صدر منه من تكسير أصنامهم أو يشهدون ما يحل به من عذابنا أو غلبنا له المؤدي إلى عذابه . وقيل : ( الناس ) هنا خواص الملك وأولياؤه وفي الكلام حذف تقديره ( فأتوا به ) على تلك الحالة من نظر الناس إليه .
( قالوا أأنت فعلت هذا ) أي الكسر والتهشيم ( بآلهتنا ) وارتفاع ( أنت ) المختار أنه بفعل محذوف يفسره ( فعلت ) ولما حذف انفصل الضمير ، ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادرا واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه ، وإذا تقدم الفعل كان الفعل مشكوكا فيه فاستفهم عنه أوقع أو لم يقع ، والظاهر أن ( بل ) للإضراب عن جملة محذوفة أي قال لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله ( بل فعله كبيرهم ) وأسند الفعل إلى ( كبيرهم ) على جهة المجاز لما كان سببا في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملا على [ ص: 325 ] تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيمهم ما دونه ، وقال قريبا من هذا . ويحتمل أن يكون فعل الكبير متقيدا بالشرط فيكون قد علق على ممتنع أي فلم يكن وقع أي إن كان هؤلاء الأصنام ( الزمخشري ينطقون ) ويخبرون من الذي صنع بهم ذلك فالكبير هو الذي صنع ذلك وأشار إلى نحو من هذا ابن قتيبة .
وقال : هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني ، والقول فيه إن قصد الزمخشري إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط أو لا يقدر إلا على خرمشة فاسدة ؟ فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء وإثباتا للقادر ، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشد منه .
ويحكى أنه قال ( فعله كبيرهم ) هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها . انتهى . ومن جعل الفاعل بفعله ضميرا يعود على قوله فتى أو على إبراهيم أو قال آخر بغير المطابق لمصلحة دينية ، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على ( بل فعله ) أي فعله من فعله وجعل ( كبيرهم هذا ) مبتدأ وخبرا وهو أو أصله ( الكسائي فعله ) بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلا بقراءة ابن السميفع ( فعله ) بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة ( فرجعوا إلى أنفسهم ) أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل ، ويحتمل أن يكون ( فرجعوا ) أي رجع بعضهم إلى بعض ( فقالوا إنكم أنتم الظالمون ) في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن جرير ، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله ابن عباس وهب ، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضا أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو ( الظالمون ) حقيقة حيث نسبتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم ( إنه لمن الظالمين ) إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها .
( ثم نكسوا على رءوسهم ) أي ارتبكوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان ، فكان عقله منكوسا أي مقلوبا لانقلاب شكله ، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم . ويحتمل أن يكون ( نكسوا على رءوسهم ) كناية عن تطأطؤ رءوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جوابا .
( ولقد علمت ) جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) فكيف تقول لنا ( فاسألوهم ) إنما قصدت بذلك توبيخا ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به . وقال مجاهد ( نكسوا على رءوسهم ) أي ردت السفلة على الرؤساء و ( علمت ) هنا معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف ( نكسوا ) وقرأ رضوان بن المعبود ( نكسوا ) بتخفيف [ ص: 326 ] الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم .
ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر ، ثم أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة ( أف ) واللغات فيها واللام في ( لكم ) لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم ، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال : ( أفلا تعقلون ) أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار .