[ ص: 349 ] هذه السورة مكية إلا ( هذان خصمان ) إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد ، وعن أيضا إنهن أربع آيات إلى قوله ( ابن عباس عذاب الحريق ) وقال الضحاك : هي مدنية . وقال قتادة : إلا من قوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول - إلى - عذاب مقيم ) . وقال الجمهور : منها مكي ومنها مدني .
ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة ، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم . نزلت هذه السورة تحذيرا لهم وتخويفا لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدة هولها ، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم ، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات ، والظاهر أن قوله : ( ياأيها الناس ) عام . وقيل : المراد أهل مكة ، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي ( اتقوا ) عذاب ( ربكم ) ، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى . وقيل : عند الثانية . وقيل : عند قول الله يا آدم ابعث بعث النار . وقال الجمهور : في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها .
وعن الحسن : يوم القيامة . وعن علقمة : عند طلوع الشمس من مغربها ، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها ، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه ( والشعبي إذا زلزلت الأرض زلزالها ) والناس ونسبة الزلزلة إلى ( الساعة ) مجاز ، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف ، فتكون ( الساعة ) مفعولا بها وعلى هذه التقادير يكون ثم ( زلزلة ) حقيقة .
وقال الحسن : أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة . وقيل : الزلزلة استعارة ، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و ( شيء ) هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد ، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال : جعل الزلزلة شيئا لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود .
وذكر تعالى أهول الصفات في قوله ( ترونها ) الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملا على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلا بالتقوى . وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا ، وكانوا من بين حزين باك ومفكر . والناصب ليوم ( تذهل ) والظاهر أن الضمير المنصوب في ( ترونها ) عائد على الزلزلة لأنها المحدث عنها ، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل ، ويكون ذلك في الدنيا . وعن الحسن ( تذهل ) المرضعة عن ولدها لغير فطام ( وتضع ) الحامل ما في بطنها لغير تمام . وقالت فرقة : الضمير يعود على [ ص: 350 ] ( الساعة ) فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم ، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم : يوم يشيب فيه الوليد . وجاء لفظ ( مرضعة ) دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب ، بمعنى ذات رضاع . وكما قال الشاعر :
كمرضعـة أولاد أخـرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
والظاهر أن ما في قوله ( عما أرضعت ) بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي أرضعته ، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله ( حملها ) لا إلى المصدر . وقيل : ما مصدرية أي عن إرضاعها . وقال : المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به . فقيل ( مرضعة ) ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة ، وخص بعض نحاة الزمخشري الكوفة أم الصبي بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر :
كمرضعـة أولاد أخـرى وضيعت
البيت فهذه ( مرضعة ) بالتاء وليست أما للذي ترضع . وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة .
وقرأ الجمهور ( تذهل كل ) بفتح التاء والهاء ورفع كل ، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي ( تذهل ) الزلزلة أو الساعة ( كل ) بالنصب ، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة . وقرأ الجمهور ( وترى ) بالتاء مفتوحة خطاب المفرد بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة . وقرأ وزيد بن علي الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء ، ورفع ( الناس ) وأنث على تأويل الجماعة . وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا ( الناس ) عدى ( ترى ) إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في ( ترى ) وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله ، والثاني والثالث ( الناس سكارى ) أثبت أنهم ( سكارى ) على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر ، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل .
وقرأ الجمهور ( سكارى ) فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع . وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران . وقال أبو حاتم : هي لغة تميم . وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح ( سكرى ) فيهما ، ورويت عن الرسول رواها عمران بن حصين وهي قراءة وأبو سعيد الخدري عبد الله وأصحابه وحذيفة . وقال : وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب . قال سيبويه أبو علي الفارسي : ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن ، وقد حكى : رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع . وقرأ سيبويه الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير ( سكرى ) بضم السين فيهما . قال والأعمش أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي . انتهى . وقال : هو غريب . وقال الزمخشري أبو الفضل الرازي : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد . انتهى . وعن أبي زرعة أيضا سكرى بفتح السين بسكرى بضمها . وعن ابن جبير أيضا سكرى بالفتح من غير ألف ( بسكارى ) بالضم والألف . وعن الحسن أيضا ( سكارى ) بسكر وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعا رائيين لها . ثم قال ( وترى ) على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر ، فجعل كل واحد رائيا لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه ، وجاء هذا الاستدراك [ ص: 351 ] بالإخبار عن ( عذاب الله ) أنه ( شديد ) لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى ، وكأنه قيل : وهذه أحوال هينة ( ولكن عذاب الله شديد ) وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها .
( ومن الناس من يجادل في الله ) أي في قدرته وصفاته . قيل : نزلت في أبي جهل . وقيل : في أبي بن خلف والنضر بن الحارث . وقيل : في النضر وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، ولا يقدر الله على إحياء من بلي وصار ترابا والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة . والظاهر أن قوله ( كل شيطان مريد ) هو من الجن كقوله ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) . وقيل : يحتمل أن يكون من الإنس كقوله ( شياطين الإنس والجن ) .
لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به . وقرأ ( ويتبع ) خفيفا ، والظاهر أن الضمير في ( عليه ) عائد على ( من ) لأنه المحدث عنه ، وفي ( أنه ) و ( زيد بن علي تولاه ) وفي ( فإنه ) عائد عليه أيضا ، والفاعل يتولى ضمير ( من ) وكذلك الهاء في ( يضله ) ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن ، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه ، فشأنه أن يضل من يتولاه . وقيل : الضمير في ( عليه ) عائد على ( كل شيطان مريد ) قاله قتادة ولم يذكر غيره ، وأورد الزمخشري ابن عطية القول الأول احتمالا . وقال ابن عطية : ويظهر لي أن الضمير في ( أنه ) الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي . قال : والكتبة عليه مثل أي إنما ( كتب ) إضلال من يتولاه ( عليه ) ورقم به لظهور ذلك في حاله . الزمخشري
وقرأ الجمهور ( كتب ) مبنيا للمفعول . وقرئ ( كتب ) مبنيا للفاعل أي كتب الله . وقرأ الجمهور : ( أنه ) بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، ( فأنه ) بفتحها أيضا ، والفاء جواب ( من ) الشرطية أو الداخلة في خبر ( من ) إن كانت موصولة . و ( فأنه ) على تقدير فشأنه أنه ( يضله ) أي إضلاله أو فله أن يضله .
وقال : فمن فتح فلأن الأول فاعل ( كتب ) يعني به مفعولا لم يسم فاعله ، قال : والثاني عطف عليه . انتهى . وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت ( فأنه ) عطفا على ( أنه ) بقيت بلا استيفاء خبر لأن ( الزمخشري من تولاه ) من ، فيه مبتدأ ، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبرا لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت ( فأنه ) عطفا على ( أنه ) ومثل قول قال الزمخشري ابن عطية قال ( وأنه ) في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها ، وهذا خطأ لما بيناه . وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو ( إنه ) ( فإنه ) بكسر الهمزتين . وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو ( إنه من تولاه فإنه يضله ) بالكسر فيهما . انتهى .
وليس مشهورا عن أبي عمرو . والظاهر أن ذلك من إسناد ( كتب ) إلى الجملة إسنادا لفظيا أي ( كتب ) عليه هذا الكلام كما تقول : كتب إن الله يأمر بالعدل . وقال : أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب ، والجملة من ( الزمخشري أنه من تولاه ) في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة ، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولا لم يسم فاعله ، وأما الثاني فلا يجوز أيضا على مذهب البصريين لأنه لا تكسر إن بعد ما هو بمعنى القول ، بل بعد القول صريحة ، ومعنى ( ويهديه ) ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم .
ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه ، وتطوره في [ ص: 352 ] مراتب سبع وهي التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفي أو الرد إلى الهرم . والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة . جدالهم في الحشر والمعاد
وقرأ الحسن ( من البعث ) بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد ، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان . والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم ( من تراب ) أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات ، والحيوان يعود إلى النبات ، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني . وقيل ( نطفة ) آدم قاله النقاش . والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى ( وغير مخلقة ) أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولا وقصرا وتماما ونقصانا . وقال مجاهد ( غير مخلقة ) هي التي تستسقط . وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية . ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرة .
وقرأ ( مخلقة ) بالنصب وغير بالنصب أيضا نصبا على الحال من النكرة المتقدمة ، وهو قليل وقاسه ابن أبي عبلة . قال سيبويه : و ( الزمخشري لنبين لكم ) بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر ( من تراب ) أولا ( ثم من نطفة ) ثانيا ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على أن يجعل النطفة ( علقة ) وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة ( مضغة ) والمضغة عظاما قدر على إعادة ما أبداه ، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف . انتهى .
و ( لنبين ) متعلق بخلقناكم . وقيل ( لنبين ) لكم أمر البعث . قال ابن عطية : وهو اعتراض بين الكلامين . وقال الكرماني : يعني رشدكم وضلالكم . وقيل ( لنبين لكم ) أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق . وقرأ ليبين لكم ويقر بالياء . وقرأ ابن أبي عبلة يعقوب وعاصم في رواية ( ونقر ) بالنصب عطفا على ( لنبين ) .
وعن عاصم أيضا ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفا على ( ونقر ) إذا نصب . وعن يعقوب ( ونقر ) بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه . وقرأ ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام أبو زيد النحوي لابن حبار ( لنبين ) ( ونقر ) ( ونخرجكم ) بالنصب فيهن . المفضل وبالياء فيهما مع النصب ، أبو حاتم وبالياء والرفع . انتهى . عمر بن شبة
قال : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك . الزمخشري
( إلى أجل مسمى ) وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته . والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى ( خلقناكم ) مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا والثاني أن ( نقر في الأرحام ) من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم . ويعضد هذه القراءة قوله ( ثم لتبلغوا أشدكم ) . انتهى .
وقرأ ( ما نشاء ) بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين ، فساقط وكامل أمره خارج حيا ، ووحد ( طفلا ) لأنه مصدر في الأصل قاله يحيـى بن وثاب المبرد ، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد . وقال والطبري : الأشد كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع . انتهى . الزمخشري
[ ص: 353 ] وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان . وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود : فعن أن واحده قيد ( أبي عمرو الشيباني ومنكم من يتوفى ) وقرئ ( يتوفى ) بفتح الياء أي يستوفي أجله ، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم ، وهو ( أرذل العمر ) والخرف ، فيصير إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل ، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط ، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادرا على تدريجه إلى حالة التمام ، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية .
و ( لكيلا ) يتعلق بقوله ( يرد ) قال الكلبي ( لكيلا ) يعقل من بعد عقله الأول شيئا . وقيل ( لكيلا ) يستفيد علما وينسى ما علمه . وقال : أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزول عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك من هذا ؟ فتقول فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه . وروي عن الزمخشري أبي عمرو ونافع تسكين ميم ( العمر ) .
( وترى الأرض هامدة ) هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته ، والدليل الأول الآية ، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال ( إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم ) فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهدا للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال ( وترى ) أيها السامع أو المجادل ( الأرض هامدة ) ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و ( الماء ) ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات ( وربت ) أي زادت وانتفخت . وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت ، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه . قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو . انتهى .
ويقال ربيء وربيئة . وقال الشاعر :
بعثنا ربيئا قبل ذلك محملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي
ذلك الذي ذكرنا من آدم وتطورهم في تلك المراتب ، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فهو الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه . وقوله ( خلق بني وأن الساعة ) إلى آخره توكيد لقوله ( وأنه يحيي الموتى ) والظاهر أن قوله ( وأن الساعة آتية ) ليس داخلا في سبب ما تقدم ذكره ، فليس معطوفا على أنه الذي يليه ، فيكون على تقدير . والأمر ( أن الساعة ) وذلك مبتدأ وبأن الخبر . وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك .