ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح ، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود - عليه السلام - وهو قول الأكثرين . وقال أبو سليمان الدمشقي : هم والطبري ثمود ، والرسول صالح - عليه السلام - هلكوا بالصيحة . وفي آخر القصة : ( فأخذتهم الصيحة ) ، ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة ، وقصة قوم هود جاءت في الأعراف ، وفي هود ، وفي الشعراء ، بإثر قصة قوم نوح . وقال تعالى : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) ، والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه وأنفذ وبعث وهنا عدي بفي ، جعلت الأمة موضعا للإرسال كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام
وجاء بعث كذلك في قوله : ( ويوم نبعث في كل أمة ) ، ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) ، و ( أن ) في : ( أن اعبدوا الله ) يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية ، وجاء هنا : ( وقال الملأ ) بالواو . وفي الأعراف وسورة هود في قصته بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله ، أي اجتمع قوله الذي هو حق وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف ، وكأنه جواب لسؤال مقدر ، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت . ( بلقاء الآخرة ) أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها . ( وأترفناهم ) أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم ، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين ، وكان العطف مشعرا بغلبة التكذيب والكفر ، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم ، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم ، وأن تكون جملة حالية ، أي وقد ( وأترفناهم ) أي ( وكذبوا ) في هذه الحال ، ويئول هذا المعنى إلى المعنى الأول ، أي : ( وكذبوا ) في حال الإحسان إليهم ، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي .
وقوله : ( يأكل مما تأكلون منه ) تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم ، وأن لا [ ص: 404 ] مزية له عليهم ، والظاهر أن ما موصولة في قوله : ( مما تشربون ) ، وأن العائد محذوف تقديره : ( مما تشربون ) منه ، لوجود شرائط الحذف ، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله : مررت بالذي مررت ، وحسن هذا الحذف ورجحه كون ( تشربون ) فاصلة ; ولدلالة منه عليه في قوله : ( مما تأكلون منه ) وفي التحرير ، وزعم الفراء أن معنى قوله : ( ويشرب مما تشربون ) على حذف أي : ( مما تشربون ) منه ، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ; لأن ما إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من . انتهى . يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه ، فيكون المحذوف ضميرا متصلا وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلا أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ; ألا ترى أنه قال : ( مما تأكلون منه ) فعداه بمن التبعيضية ، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير ( مما تشربون ) منه ، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح .
وقال : حذف الضمير ، والمعنى من مشروبكم ، أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه ، انتهى . فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه ، وفسره بقوله : مشروبكم ; لأن الذي تشربونه هو مشروبكم . الزمخشري
وقال : ( إذا ) واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم . انتهى . وليس ( إذا ) واقعا في جزاء الشرط بل واقع بين ( الزمخشري إنكم ) والخبر و ( إنكم ) والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة ، ولو كانت ( إنكم ) والخبر جوابا للشرط للزمت الفاء في ( إنكم ) ، بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه ، وهو عندهم خطأ . واختلف المعربون في تخريج ( إنكم ) الثانية ، والمنقول عن أن ( إنكم ) بدل من الأولى ، وفيها معنى التأكيد ، وخبر ( إنكم ) الأولى محذوف ; لدلالة خبر الثانية عليه تقديره ( إنكم سيبويه ) تبعثون ( إذا متم ) ، وهذا الخبر المحذوف هو العامل في ( إذا ) ، وذهب الفراء والجرمي إلى أن ( إنكم ) الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار ، وعلى هذا يكون : ( والمبرد مخرجون ) خبر ( إنكم ) الأولى ، والعامل في ( إذا ) هو هذا الخبر ، وكان يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر إن الأولى . وذهب المبرد الأخفش إلى أن ( أنكم مخرجون ) مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره : يحدث إخراجكم ، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبرا لأنكم ، ويكون جواب : ( إذا ) ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر ( إنكم ) ويكون عاملا في ( إذا ) .
وذكر قول الزمخشري بادئا به فقال : ثنى ( إنكم ) للتوكيد ، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف ، و ( مخرجون ) خبر عن الأول ، وهذا قول المبرد . قال المبرد : أو جعل ( الزمخشري أنكم مخرجون ) مبتدأ ، و ( إذا متم ) خبرا على معنى إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن ( أنكم ) ، انتهى . وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه . قال : أو رفع ( أنكم مخرجون ) بفعل ، هو جزاء الشرط كأنه قيل : ( إذا متم ) وقع إخراجكم . انتهى . وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبرا عن : ( أنكم ) ، ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه ، وأن يكون خبر ( أنكم ) ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في : ( إذا ) ، وفى قراءة عبد الله : ( أيعدكم ) ، ( إذا متم ) بإسقاط ( أنكم ) الأولى .
وقرأ الجمهور : ( هيهات هيهات ) بفتح التاءين ، وهي لغة الحجاز . وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ، ونسبها ابن عطية ل خالد بن إلياس . وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين ، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أأبو السماك في الأول وخالفه في الثاني . وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين ، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم و أسد وعنه أيضا ، وعن خالد بن إلياس بكسرهما [ ص: 405 ] والتنوين . وقرأ عن خارجة بن مصعب أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بإسكانهما ، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبا كبيرا بالحذف والإبدال والتنوين وغيره ، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة ، فالذي أختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعا لهيهات ، ومذهب أنها جمع لهيهات ، وكان حقها عنده أن تكون : ( سيبويه هيهات ) إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء ، قال : هي مثل بيضات يعني في أنها جمع ، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد ، فقال : واحد هيهات هيهة ، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ، ولا تستعمل هذه الكلمة غالبا إلا مكررة ، وجاءت غير مكررة في قول سيبويه جرير :
وهيهات خل بالعقيق نواصله
وقول رؤبة :
هيهات من منخرق هيهاؤه
و ( هيهات ) اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرا أو مضمرا ، وهنا جاء التركيب ( هيهات هيهات لما توعدون ) لم يظهر الفاعل فوجب أن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم ، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد سقيا لك ، فتتعلق بمحذوف ، وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد ، كما جاءت في : ( هيت لك ) لبيان المهيت به . وقال : البعد ( الزجاج لما توعدون ) أو بعد ( لما توعدون ) ، وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب ; لأنه لم تثبت مصدرية ( هيهات ) ، وقول : فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح ; لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر . وقال الزمخشري ابن عطية : طورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا ، وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود ( لما توعدون ) ، انتهى . وهذا ليس بجيد ; لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقي معموله ولا يجيز البصريون شيئا من هذا . وقال ابن عطية أيضا في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل ، وخبره : ( لما توعدون ) أي البعد لوعدكم ، كما تقول : النجح لسعيك . وقال صاحب اللوامح : فأما من قال : ( هيهات ) فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء ، وما بعدهما خبرهما من حروف الجر ، بمعنى البعد . ( لما توعدون ) والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة ، انتهى . وقرأ : ( ابن أبي عبلة هيهات هيهات ) ( ما توعدون ) بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات . وهي قراءة واضحة .
وقالوا ( إن هي ) هذا الضمير يفسره سياق الكلام ; لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا : ( أيعدكم أنكم ) الآية ، فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء ، فتضمن أن لا حياة إلا حياتهم . وقال : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله إن الحياة : ( الزمخشري إلا حياتنا ) الدنيا ، ثم وضع : ( هي ) موضع الحياة ; لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول ما شاءت ، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا ; لأن ( إن ) الثانية دخلت على ( هي ) التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس .
( نموت ونحيا ) أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن ، انتهى ، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلا حياتهم وجزموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية ، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث . ( وما نحن له بمؤمنين ) أي بمصدقين ، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم ( قال عما قليل ) أي عن زمن قليل ، و ( ما ) توكيد للقلة و ( قليل ) صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب . قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين . وقيل : ( عما قليل ) أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع [ ص: 406 ] الرجوع ، واللام في ( ليصبحن ) لام القسم ، و ( عما قليل ) متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين ، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها ; ألا ترى أنه لو كان مفعولا به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيدا لم يجز زيدا لأضربن ، وهذا الذي قررناه من أن ( عما قليل ) يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا ، وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها ، سواء كان ظرفا أو مجرورا أو غيرهما ، فعلى قول هو لا يكون ( عما قليل ) يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره ( عما قليل ) تنصر ; لأن قبله قال : ( رب انصرني ) . وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقا . وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة ، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزا - والله أعلم - انتهى .
( فأخذتهم الصيحة ) قال : صيحة الزمخشري جبريل - عليه السلام - صاح عليهم فدمرهم . ( بالحق ) بالوجوب ; لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم ، وهو حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان ، انتهى . وعن ( ابن عباس الصيحة ) الرجفة . وقيل : هي نفس العذاب والموت . وقيل : العذاب المصطلم . قال الشاعر :
صاح الزمان بآل زيد صيحة خروا لشنتها على الأذقان
وقال المفضل : ( بالحق ) بما لا مدفع له كقوله : " وجاءت سكرة الموت بالحق " . وانتصب بعدا بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعدا . أي هلكوا ، يقال بعد بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا . وقال الحوفي : ( للقوم ) متعلق ببعدا . وقال : و ( الزمخشري للقوم الظالمين ) بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو ( هيت لك ) و ( لما توعدون ) ، انتهى ، فلا تتعلق ببعدا بل بمحذوف .