وعن ابن عمر وأصحابه أنها في قوم مخصوصين ، كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا ، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن ، فنزلت الآية بسببهن ، والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية ، وقوله : ( وابن عباس لا ينكح ) أي لا يتزوج ، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ ، كأنه يقول : الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه ( وحرم ذلك على المؤمنين ) . أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمة محمد .
وقال الحسن : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة ، قال : وهذا حكم من الله ; فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا زانية . وقد روي أن محدودا تزوج غير محدودة فرد نكاحها . ( علي بن أبي طالب وحرم ذلك على المؤمنين ) يريد الزنا . وروى الزهراني في هذا حديثا من طريق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة " . قال لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله ابن عطية : وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه ، وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك ، انتهى . وقال : هذا حكم - كان في الزناة - عام أن لا يتزوج زان إلا زانية ، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله : ( ابن المسيب وأنكحوا الأيامى منكم ) ، وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ، وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلا أنه قال : حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر . قال ابن عطية : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي ، انتهى .
وعن الجبائي أنها منسوخة بالإجماع ، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن ، وتلخص من هذه الأقوال أن النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا ، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلا فيمن هو شكل لهم ، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلا فيمن هو شكل لهن ، ولا يجوز التزويج على ما قرره الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا ، فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة ، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها ، فأجاز ذلك الزمخشري ، أبو بكر الصديق ، وابن عمر ، وابن عباس وجابر ، ، وطاوس ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، ومالك ، ، والثوري ، ومنعه والشافعي ، ابن مسعود ، والبراء بن عازب وعائشة ، وقالا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه ، وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها ، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما ، وقال قوم منهم لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت ، فإن أمسكها أثم ، قالوا : ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني ، فإن ظهرت التوبة جاز .
وقال : ( فإن قلت ) : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية ؟ [ ص: 431 ] ( قلت ) : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان . الزمخشري
وعن ( عمرو بن عبيد لا ينكح ) بالجزم على النهي ، والمرفوع فيه معنى النهي ، ولكن هو أبلغ وآكد ، كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك ، ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى أن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها ، انتهى . وقرأ و أبو البرهسم ( وحرم ) مبنيا للفاعل أي الله ، ( وحرم ) بضم الراء وفتح الحاء ، والجمهور ( وحرم ) مشددا مبنيا للمفعول . وزيد بن علي
والقذف الرمي بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان . قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك . وقيل : بسبب القذفة عاما ، واستعير الرمي للشتم ; لأنه إذاية بالقول . كما قال :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
و ( المحصنات ) ، الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم ; لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى الرجال ، ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن . وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما قال : ( والتي أحصنت فرجها ) . وقيل : الأنفس المحصنات ، وقاله ، وحكاه ابن حزم الزهراوي ، فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملا للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله : ( والمحصنات من النساء ) ، وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية . قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير مزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، هوالتصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه ، وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب والرمي بالزنا الموجب للحد أبي حنيفة ، وزفر ، وأبي يوسف ، ومحمد ، ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن صالح ، ويحد في مذهب والشافعي مالك ، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس ، وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف كتابيا إذا كان للمقذوف ولد مسلم . وقيل : إذا حد واتفقوا على أن قذف الكتابية تحت المسلم وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف الصبي لا يحد . فقال قاذف الصبية مالك : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : . وقال غيرهما : لا يحد . يحد قاذف المجنون
( والذين يرمون ) ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو فلا حد عليه ، أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية . وقال الشافعي أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ، ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيرا ما يتستر بها ، فقلما يطلع أحد عليها ، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وسترا لهم ، والمعنى ( ثم لم يأتوا ) الحكام والجمهور على إضافة ( أربعة ) إلى ( شهداء ) . وقرأ أبو زرعة و عبد الله بن مسلم : ( بأربعة ) بالتنوين ، وهي قراءة فصيحة ; لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ; لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك ( شهيد ) ; ألا ترى إلى قوله : ( ابن جني فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) ، وقوله ( واستشهدوا شهيدين ) ، وكذلك : عبد [ ص: 432 ] فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والإتباع ، وكذلك ثلاثة أعبد .
وقال ابن عطية : يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر ، انتهى . وليس كما ذكر إنما يرى ذلك وسيبويه في العدد الذي بعده اسم ، نحو : ثلاثة رجال ، وأما في الصفة فلا ، بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل ; إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة ; لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال : إنه حال أو تمييز ، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتي بهم متفرقين صحت شهادتهم . وقال سيبويه أبو حنيفة : شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاءوا متفرقين كانوا قذفة . والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ; ولقوله : ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) ، ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن . وقال والشعبي مالك : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة ، وروي مثله عن والشافعي . ابن عباس
( فاجلدوهم ) أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف ، وبه قال . وقال ابن أبي ليلى أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي : لا يحد إلا بمطالبته . وقال والشافعي مالك كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه ، فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول ، وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرا إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين ; لاندراجه في عموم : ( والذين يرمون ) ، وبه قال عبد الله بن مسعود . وقال والأوزاعي أبو حنيفة وأصحابه ، و مالك ، ، والثوري و عثمان البتي ، : يجلد أربعين ، وهو قول والشافعي علي ، وفعل أبي بكر وعمر وعلي ، ومن بعدهم من الخلفاء ; قاله ، ولو عبد الله بن ربيعة ، حد حدا واحدا ، وهو قول قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث . وقال عثمان البتي : لكل واحد حد . وقال والشافعي الشعبي : إن كان بلفظ واحد نحو : يا زناة ; فحد واحد ، أو قال : لكل واحد : يا زاني ; فلكل إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلا القاذف ، ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه وابن أبي ليلى عمر مجرى القاذف . وجلد أبا بكرة وأخاه نافعا وشبل بن معبد البجلي ; لتوقف الرابع ، وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة ، ولو أتي بأربعة شهداء فساق . فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف والشهود . وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود . وقال مالك و عبيد الله بن الحسن : يحد الشهود والقاذف .
( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبدا وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته ، وبه قال ، شريح القاضي والنخعي ، ، وابن جبير ، وابن المسيب والحسن ، ، والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، : والحسن بن صالح وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير القذف إذا تاب . وقال لا تقبل شهادة المحدود في القذف مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب ، وبه قال عطاء ، ، وطاوس و مجاهد ، ، والشعبي ، والقاسم بن محمد وسالم ، ، وقال : والزهري ، يعني مطلقا ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف ، وهو قول لا تقبل شهادة محدود في الإسلام ، وكذا فعل الشافعي عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات .
( وأولئك هم الفاسقون ) الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز ( الذين يرمون ) ، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط ، وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبدا .