تقدم الكلام على ( خطوات الشيطان ) تفسيرا وقراءة في البقرة . والضمير في ( فإنه ) عائد على ( من ) الشرطية ، أي : فإن متبع خطوات الشيطان ( يأمر بالفحشاء ) ، وهو ما أفرط قبحه ، ( والمنكر ) وهو ما تنكره العقول السليمة ، أي : يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا يطيعه أصحابه .
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم . وقرأ الجمهور ( ما زكى ) بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة ، ، والكسائي و أبو حيوة ، والحسن ، ، والأعمش وأبو جعفر ، في رواية وروح بتشديدها ، وأماله وكتب ( زكى ) المخفف بالياء ، وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ ; لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف . ( الأعمش ولكن الله يزكي من يشاء ) ممن سبقت له السعادة ، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول [ ص: 440 ] التوبة النصوح . ( والله سميع ) : لأقوالهم ، ( عليم ) : بضمائرهم .
( ولا يأتل ) هو مضارع ائتلى افتعل ، من الألية وهي الحلف . وقيل : معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ، ومنه ( لا يألونكم ) . وقول الشاعر :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو مسلم . وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة . وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه ، فنزلت في جميعهم . والآية تتناول من هو بهذا الوصف . وقرأ الجمهور : ( يأتل ) . وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة ، وأبو جعفر مولاه ، ، وزيد بن أسلم والحسن : يتأل ، مضارع تألى ، بمعنى حلف . قال الشاعر :
تألى ابن أوس حلفة ليردني إلى نسوة كأنهن معائد
والفضل والسعة يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة - رضي الله عنه - وكان من المهاجرين ، وممن شهد أبي بكر الصديق بدرا ، وكان ما نسب إليه داعيا أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو بكر : ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) ، قال : بلى ، أحب أن يغفر الله لي ، ورد إلى مسطح نفقته ، وقال : والله لا أنزعها أبدا . وقرأ أبو حيوة وابن قطيب ، وأبو البرهسم : أن تؤتوا ، بالتاء على الالتفات ، ويناسبه : ( ألا تحبون ) ، و ( أن يؤتوا ) نصب الفعل المنهي ، فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة ( أن يؤتوا ) وأن لا يؤتوا ، فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير : في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا . وقرأ عبد الله ، والحسن ، وسفيان بن الحسين : ولتعفوا ولتصفحوا ، بالتاء أمر خطاب للحاضرين . وأسماء بنت يزيد
( إن الذين يرمون ) عام في الرامين ، واندرج فيه الراميان تغليبا للمذكر على المؤنث . و ( المحصنات ) ظاهره أنه عام في النساء العفائف . وقال النحاس : من أحسن ما قيل فيه : أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس ( المحصنات ) فيدخل فيه المذكر والمؤنث . وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك . وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة ، تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان ، كما قال :
قدني من نصر الخبيبين قدي
يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه . و ( الغافلات ) السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر ; لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطن لما يفطن له المجربات ، كما قال الشاعر :
ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها
وكذلك البله من الرجال في قوله " " أكثر أهل الجنة البله . ( لعنوا في الدنيا والآخرة ) في قذف المحصنات . قيل : هذا الاستثناء بالتوبة ، وفي هذه لم يجئ استثناء . وعن أن من ابن عباس لم تقبل توبته ، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له . ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي خاض في حديث الإفك وتاب مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر ; قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله : ( يوم تشهد عليهم ) ، وعن أنها نزلت في ابن عباس عبد الله بن أبي ، كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه . والناصب لـ ( يوم تشهد ) ما تعلق به الجار والمجرور ، وهو : ( ولهم ) . وقال الحوفي : العامل فيه ( عذاب ) ، ولا يجوز لأنه موصوف إلا على رأي الكوفيين . وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم : يشهد ، بياء من تحت ; لأنه تأنيث مجازي ، ووقع [ ص: 441 ] الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطا لوجود الكلام . وقالت وابن سعدان المعتزلة : يخلق في هذه الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام ، فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة ، إلا أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعا . وقالوا أيضا : إنه تعالى ينشئ هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله . قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر ; لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة .
وانتصب ( يومئذ ) بـ ( يوفيهم ) ، والتنوين في ( إذ ) عوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير يوم إذ تشهد . وقرأ ( زيد بن علي يوفيهم ) مخففا ، والدين هنا الجزاء ، أي : جزاء أعمالهم . وقال :
ولم يبق سوى العد وإن دناهم كما دانوا
قال : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله - عز وجل - قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك ، وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة ، كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه ( الزمخشري يوفيهم ) جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله ( أن الله هو الحق ) ، فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة ، انتهى . وهو كلام حسن . ثم قال بعد كلام ( فإن قلت ) : ما معنى قوله : ( الحق المبين ) ؟ ( قلت ) : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ، والمحق الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه ، انتهى . وفي قوله : لم تسقط عنده إساءة مسيء ، دسيسة الاعتزال .
والظاهر أن ( الخبيثات ) وصف للنساء ، وكذلك ( الطيبات ) أي : النساء الخبيثات للرجال ( الخبيثين ) ، ويرجحه مقابلته بالذكور ، فالمعنى أن ( الخبيثات ) من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريبا من قوله : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) ، وكذلك ( الطيبات ) من النساء ( للطيبين ) من الرجال ، ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها . وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما . وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد ، فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه ، والرسول وأصحابه ، فلم يجعل الله له إلا كل طيبة ، وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث . وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد و قتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء ، فقال بعضهم : الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلا الخبيثون من الناس ، فهي لهم وهم لها بهذا الوجه . وقال بعضهم : الكلمات والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلا بالخبيثين من الناس ، فهي لهم وهم لها بهذا الوجه .
( أولئك ) إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء . ( مبرئون مما يقولون ) ، أي : يقول الخبيثون من خبيثات الكلم ، أو القاذفون الرامون المحصنات [ ص: 442 ] ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة .