[ ص: 445 ] جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي ، فنزلت : ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا ) ، الآية . فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله ، أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن ، فنزل : ( ليس عليكم جناح ) ، الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب الله تعالى أن ; لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به . والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام ; لقوله : ( لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام غير بيوتكم ) ، ويروى ، قال : وغيا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ; لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : ( أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أأستأذن على أمي ؟ قال : " نعم " ، قال : ليس لها خادم غيري ; أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : " أتحب أن تراها عريانة " قال الرجل : لا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) ، وهذا من باب الكنايات والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .
وقد روي عن أنه قال : ( ابن عباس تستأنسوا ) معناه تستأذنوا ، ومن روى عن أن قوله : ( ابن عباس تستأنسوا ) خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنه قرأ حتى تستأذنوا ، فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، بريء من هذا القول . و ( وابن عباس تستأنسوا ) [ ص: 446 ] متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب . وقد قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أستأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة ، الحديث المشهور . وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به . وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحدا واستأنست فلم أر أحدا ، أي تعرفت واستعلمت ، ومنه بيت النابغة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا يوم الجليل على مستأنس وحد
ويجوز أن يكون من الأنس ، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان . وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس ؟ قال : " يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت ، والتسليم أن يقول : السلام عليكم " . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته : حييتم صباحا وحييتم مساء ، ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد ، فصد الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل . وذهب في ( الطبري تستأنسوا ) إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه ، وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم . قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس ، انتهى . وقال عطاء : ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة . وفي الحديث : " الاستئذان واجب على كل محتلم " يعني كماله . " الاستئذان ثلاث " . والظاهر تقديم الاستئذان على السلام . فإن أذن له وإلا فليرجع ، ولا يزيد على ثلاث إلا أن يحقق أن من في البيت لم يسمع أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل ؟ والواو في ( وفي حديث وتسلموا ) لا تقتضي ترتيبا فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة .( ذلكم ) إشارة إلى المصدر المفهوم من ( تستأنسوا ) ، و ( تسلموا ) أي ( ذلكم ) الاستئناس والتسليم ( خير لكم ) من تحية الجاهلية . ( لعلكم تذكرون ) أي شرعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الاطلاع عليه . ( لعلكم تذكرون ) اعتناء بمصالحكم .
( فإن لم تجدوا فيها أحدا ) أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم ، ( حتى يؤذن لكم ) إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه . ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ) وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له ، سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن ، أي : لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين . ( هو أزكى ) أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيرا ; لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة . ثم أخبر أنه تعالى ( بما تعملون عليم ) أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل .
( ليس عليكم جناح ) قال : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها ، نحو الفنادق - وهي الخانات - والربط وحوانيت البياعين ، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع ، انتهى . وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر ، هو مروي عن الزمخشري ابن عباس وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء ; لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة ; ولذلك قال : ( بيوتا غير بيوتكم ) ، وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة . فقال محمد ابن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين . قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل . و ( فيها متاع ) لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز . وقال ابن زيد : هي حوانيت [ ص: 447 ] القيسارية والسوق . قال والشعبي أيضا : هي دور ابن الحنفية مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس فيها شركاء ، وأن مكة فتحت عنوة . ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب .
و ( من ) في ( من أبصارهم ) عند الأخفش زائدة ، أي يغضوا أبصارهم عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض ; وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعلي - كرم الله وجهه - : لا تتبع النظرة النظرة ; فإن الأولى لك وليست لك الثانية . وقال ابن عطية : يصح أن تكون ( من ) لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية ، انتهى . ولم يتقدم مبهم فتكون ( من ) لبيان الجنس ، على أن الصحيح أن " من " ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس . ( ويحفظوا فروجهم ) أي من الزنا ومن التكشف . ودخلت ( من ) في قوله : ( من أبصارهم ) دون الفرج ; دلالة على أن أمر النظر أوسع ; ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدر والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة ، وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها ، وأما أمر الفرج فمضيق . وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين . ( ذلك ) أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم . ( إن الله خبير بما يصنعون ) من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك . وقدم غض البصر على حفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، لا يكاد يقدر على الاحتراز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ، ويكثر السقوط من جهته . وقال بعض الأدباء :
وما الحب إلا نظرة إثر نظرة تزيد نموا إن تزده لجاجا
ثم ذكر تعالى . ثم قال : ( حكم المؤمنات في تساويهن مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج ولا يبدين زينتهن ) ، واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثني . وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر ; لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين نفسها ; ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة ; لأن سترها فيه حرج ، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهن وهذا معنى قوله : ( إلا ما ظهر منها ) يعني إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة . أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ; ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقال : ( ابن مسعود ما ظهر منها ) هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب ، وقال تعالى : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) وفسرت الزينة بالثياب . وقال : الكحل والخاتم . وقال ابن عباس الحسن في جماعة : الوجه والكفان . وقال : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار . وقال ابن جريج الحسن أيضا : الخاتم والسوار . وقال : الكحل والخاتم فقط . وقال [ ص: 448 ] ابن عباس : هما والسوار . وقال المسور بن مخرمة الحسن أيضا : الخاتم والسوار . وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنهاهن الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم ، واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ . وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة ، والأقرب دخوله في الزينة ، وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن .
وفي قوله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار . وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج : حسن أن يكون الاستثناء راجعا إليهما ، وفي السنن لأبي داود أنه - عليه السلام - قال : " أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه . وقال يا ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رءوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن ، وضمن ( وليضربن ) معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه . وقرأ عياش عن أبي عمرو : ( وليضربن ) بكسر اللام ، وطلحة : ( بخمرهن ) بسكون الميم ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وهشام : ( جيوبهن ) بضم الجيم ، وباقي السبعة بكسر الجيم .
وبدأ تعالى بالأزواج ; لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ، ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يبدى للأب ما لا يبدى لابن الزوج . ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال . وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر ، قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب : ( لا جناح عليهن في آبائهن ) ، ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في : ( نسائهن ) إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة ، كتابية ومشركة ، من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن ، وأكثر السلف على أن قوله : ( أو نسائهن ) مخصوص بمن كان على دينهن .
قال : ابن عباس ، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب ، إلا أن تكون أمة لقوله : ( ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة أو ما ملكت أيمانهن ) ، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات . والظاهر العموم في قوله : ( أو ما ملكت أيمانهن ) ، فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون ، وهو مذهب عائشة . وعن وأم سلمة مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها . وعن مثله ثم رجع عنه . وقال سعيد بن المسيب ابن مسعود والحسن وابن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته ، وهو قول وابن سيرين أبي حنيفة . وفي الحديث : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم " والعبد ليس بذي محرم . وقال : لا يغرنكم آية النور ، فإن المراد بها الإماء . قال سعيد بن المسيب : وهذا هو الصحيح ; لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو فحلا . وعن الزمخشري ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ، فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية ، أترى المثلة تحلل ما حرم الله . وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم . انتهى . والإربة الحاجة إلى الوطء ; لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمر النساء ، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام . قال ابن عطية : ويدخل في هذه [ ص: 449 ] الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته .
وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء ، وباقي السبعة بالجر على النعت ، وعطف ( أو الطفل ) على ( من الرجال ) ، قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين : رجال وأطفال ، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله : ( الذين لم يظهروا ) ، ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، يريد الدنانير والدراهم ، فكأنه قال : أو الأطفال . والطفل ما لم يبلغ الحلم ، وفي مصحف حفصة ( أو الأطفال ) جمعا . وقال : وضع الواحد موضع الجمع ; لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه ( الزمخشري يخرجكم طفلا ) ، انتهى . ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند ، وإنما قوله : ( الطفل ) من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله : ( سيبويه إن الإنسان لفي خسر ) ، ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ، " ثم يخرجكم " بثم لا بالواو . وقوله ونحوه ليس نحوه ; لأن هذا معرف بلام الجنس و ( طفلا ) نكرة ، ولا يتعين حمل ( طفلا ) هنا على الجمع الذي لا يقيسه ; لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم ، كما قيل في قوله تعالى : ( سيبويه وأعتدت لهن متكأ ) ، أي : لكل واحدة منهن . وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف ، أي : يشبع كل واحد منهم رغيف . وقوله : ( لم يظهروا ) إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه . ومنه ( فأصبحوا ظاهرين ) أي : غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء .
وقرأ الجمهور ( عورات ) بسكون الواو ، وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع . وروي عن تحريك واو ( عورات ) بالفتح . والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة ابن عباس هذيل بن مدركة . ونقل ابن خالويه في كتاب " شواذ القراءات " أن ابن أبي إسحاق قرأ ( عورات ) بالفتح . قال : وسمعنا ابن والأعمش مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان . وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو . وأنشدني بعضهم :
أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقال : وإنما نهى عن الزمخشري بعد ما نهى عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلي أبلغ . إظهار صوت الحلي
( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ) لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائما ، وإن ضبط [ ص: 450 ] نفسه واجتهد ، فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا . وعن ( توبوا ) مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . وقرأ ابن عباس ابن عامر ( أيه المؤمنون ) و ( يا أيه الساحر ) يا ( أيه الثقلان ) بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها ، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط ، ووقف بعضهم بسكون الهاء ; لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف . شقيق بن سلمة