لما افتتح السورة بقوله : ( سورة أنزلناها ) ، وذكر أنواعا من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول - عليه السلام - اختتمها بما يجب له - عليه السلام - على أمته من التتابع والتشايع ، على ما فيه مصلحة الإسلام ومن طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه . وقال : أراد - عز وجل - أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير إذنه . الزمخشري
( إذا كانوا معه على أمر جامع ) فجعل ترك ذهابهم ( حتى يستأذنوه ) ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما ، وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتسديدا بحيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : ( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ) ، وضمنه شيئا آخر ، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرض بحال الماضين وتسللهم لواذا .
ومعنى قوله : ( لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) لم يذهبوا حتى [ ص: 476 ] يستأذنوه ويأذن لهم ; ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له ، والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز ، وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك . والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله : ( وإذا كانوا معه على أمر جامع ) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه . فمن ثم غلظ عليهم ، وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : ( لبعض شأنهم ) ، وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه .
وقيل : نزلت في حفر الخندق ، وكان قوم يتسللون بغير إذن ; لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن ، على حسب ما اقتضاه رأيه ، انتهى . وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الإمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلا بإذن منه ; إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب . وقال مكحول : الجمعة من الأمر الجامع ، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به . وقال والزهري : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال ابن سيرين زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن ، وقد كان هذا بالمدينة حتى إن رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام . وقال سهيل بن أبي صالح ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة : كالجمعة ، والعيدين ، والاستسقاء . وقال ابن زيد : في الجهاد . وقال مجاهد : الاجتماع في طاعة الله . قيل : في قوله : ( فائذن لمن شئت منهم ) ، أريد بذلك . وقرأ عمر بن الخطاب اليماني على ( أمر جميع ) .
( لا تجعلوا ) خطاب لمعاصري الرسول - عليه السلام - لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد ، وفي قوله : ( كدعاء بعضكم بعضا ) إشارة إلى جواز ذلك مع بعضهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه - عليه السلام - إلا من دعاه لا من دعا غيره . وكانوا يقولون : يا أبا القاسم ، يا محمد ، فنهوا عن ذلك . وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختاره المبرد والقفال ، ويدل عليه ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ، وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها .
وقال : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، انتهى . وهو قريب مما قبله . وقال أيضا : ويحتمل لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ; يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسموعة مستجابة ، انتهى . وقال الزمخشري : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض ، أي : دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه . قال ابن عباس ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى ، انتهى .
وقرأ الحسن ، ويعقوب في رواية ( نبيكم ) ، بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة ، بدل قوله : ( بينكم ) ظرفا ، قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : وهو النبي - عليه السلام - على البدل من ( الرسول ) فإنما صار بدلا ; لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير ، فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر [ ص: 477 ] تعريفا من ذي اللام ، فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ; لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف . ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتا لكونهما معرفتين ، انتهى . وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل ، وينبغي أن يجوز النعت ; لأن الرسول قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة ; إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان كذلك فقد تساويا في التعريف . ومعنى ( يتسللون ) ينصرفون قليلا قليلا عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتارا من الرسول .
وقال الحسن : ( لواذا ) فرارا من الجهاد . وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة . وقال مجاهد ( لواذا ) خلافا . وقال أيضا ( يتسللون ) من الصف في القتال ، وقيل : ( يتسللون ) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى كتابه وعلى ذكره . وانتصب ( لواذا ) على أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متلاوذين ، و ( لواذا ) مصدر لاوذ ، صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذا كقام قياما . وقرأ يزيد بن قطيب ( لواذا ) بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ، ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافا . واحتمل أن يكون مصدر لاوذ ، وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو ، وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد ، وبإلى تقول : خالفت إلى كذا ، فقوله : ( عن أمره ) ضمن خالف معنى صد وأعرض فعداه بعن . وقال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و ( عن ) هي لما عدا الشيء . وقال أبو عبيدة والأخفش : ( عن ) زائدة ، أي : أمره ، والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب ، وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في ( أمره ) عائد على الله . وقيل على الرسول . وقرئ " يخلفون " بالتشديد ، أي : يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل ، قاله أيضا ، أو بلاء ، قاله ابن عباس مجاهد ، أو كفر ، قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجا ، قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر ، قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب ، قاله بعضهم . وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر ، وهي في الدنيا . أو ( عذاب أليم ) . قيل : عذاب الآخرة . وقيل : هو القتل في الدنيا .
( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) ، هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما ، وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه . ( قد يعلم ما أنتم عليه ) أي : من مخالفة أمر الله وأمر رسوله ، وفيه تهديد ووعيد ، والظاهر أنه خطاب للمنافقين . وقال : أدخل ( قد ) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله : الزمخشري
فإن يمس مهجور الفناء فربما أقام به بعد الوفود وفود
ونحو من ذلك قول زهير :أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
وقرأ الجمهور ( يرجعون ) مبنيا للمفعول . وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنيا للفاعل . والتفت من ضمير الخطاب في ( أنتم ) إلى ضمير الغيبة في ( يرجعون ) ، ويجوز أن يكون ( ما أنتم عليه ) خطابا عاما ، ويكون ( يرجعون ) للمنافقين . والظاهر عطف ( ويوم ) على ( ما أنتم عليه ) فنصبه نصب المفعول . قال ابن [ ص: 478 ] عطية : ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف .