لما بين تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ، ذكر أنواعا من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة ، لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه ، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال ، وأن ذلك جار على مشيئته . وتقدم الكلام على ( ألم تر ) في البقرة في قصة الذي حاج إبراهيم . والمعنى ألم تر إلى . و ( كيف ) : سؤال عن حال في موضع نصب [ ص: 503 ] بمد . والجملة في موضع متعلق ( ألم تر ) ; لأن ( تر ) معلقة ، والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقيا على حقيقة الاستفهام . فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل . صنع ربك وقدرته
وقال الجمهور : الظل هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، مثل لا شمس فيه ولا ظلمة . واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ، ولا يسمى ظلا . وقيل : الظل الليل لا ظل الأرض ، وهو يغمر الدنيا كلها . وقيل : من غيبوبة الشمس إلى طلوعها ، وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا . وقيل : ظلال الأشياء كلها كقوله : ( ظل الجنة ظل ممدود أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) . وقال أبو عبيدة : الظل بالغداة والفيء بالعشي . وقال : الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس . وقيل : ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء . ابن السكيت
( ولو شاء لجعله ساكنا ) ، قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه . وقال مجاهد : لا تصيبه الشمس ولا تزول . وقال الحسن : لو شاء لتركه ظلا كما هو . وقيل : لأدامه أبدا بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها ، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان ، فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل ، فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد ، وهو قوله : ( ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصانا يسيرا بعد يسير ، وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيرا بعد يسير حتى يعم الأرض كلها ، فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت .
وقال : ومعنى ( مد الظل ) أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس . ( الزمخشري ولو شاء لجعله ساكنا ) ، أي : لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا ، ومعنى كون الشمس دليلا أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا ، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك . وقبضه إليه أن ينسخه بظل الشمس ( يسيرا ) ، أي : على مهل ، وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا ( فإن قلت ) : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها ؟ ( قلت ) : موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني ; تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت . ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء ، كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها ، فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير .
( ولو شاء لجعله ساكنا ) مستقرا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلا متبوعا لهم كما يتبع الدليل في الطريق ، فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير ، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه ، وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه ، وقوله : ( قبضناه إلينا ) يدل عليه ، وكذلك قوله : ( يسيرا ) ، كما قال : ( ذلك حشر علينا يسير ) ، انتهى . وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه لم يسم الله ذلك إنما قال : ( كيف مد الظل ) ، وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة فهذا يبعد احتماله ; لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ، ثم قال : ( مد الظل ) وعطف عليه ماضيا مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضيا مستداما أمثاله .
وقال ابن عطية : ( ولو شاء لجعله ساكنا ) ، أي : ثابتا غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه [ ص: 504 ] بطردها له من موضع إلى موضع ; دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه . وحكى : أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها . وقال الطبري : ( يسيرا ) معجلا . وقال ابن عباس مجاهد لطيفا ، أي : شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يريد سهلا قريب التناول . وقال أبو عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين .
الأول : أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال ; لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس ، والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية ، وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة : ( وظل ممدود ) ، والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئا سوى الجسم وسوى اللون ، والظل ليس أمرا ثالثا ولا معرفة به إلا أنه إذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ثم مال ، عرف للظل وجود وماهية ، ولولاها ما عرف ; لأن الأشياء تدرك بأضدادها ، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ; ولذلك قال : ( ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) ، أي : جعلنا الظل أولا بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلا على وجود الظل . ( ثم قبضناه ) أي : أزلناه لا دفعة بل ( يسيرا ) يسيرا كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا كان زوال الأظلال كذلك .
والثاني : أنه لما خلق السماء والأرض وقع ظل السماء على الأرض ، فجعل الشمس دليلا ; لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال ، فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء ، ولذلك جعل الشمس دليلا عليه ، انتهى ملخصا . وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ، ومحسن بعض تحسين . والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير .
وقال أيضا : الظل ليس عدما محضا ، بل هو أضواء مخلوطة بظلام ، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية ، انتهى . والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير ، وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة . ( جعل الليل لباسا ) تشبيها بالثوب الذي يغطي البدن ويستره ; من حيث الليل يستر الأشياء . والسبات : ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به ، والسبت الإقامة في المكان ، فكان السبات سكونا تاما ، والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة ، اللذين يتضمنهما النوم والسبات ، انتهى من كلام ابن عطية ، وقال غيره : السبات الراحة ، أي : سبب راحة . جعل النوم سباتا
وقال : السبات الموت ، وهو كقوله : ( الزمخشري وهو الذي يتوفاكم بالليل ) ، ( فإن قلت ) : هلا فسرته بالراحة ؟ ( قلت ) : النشور في مقابلته يأباه ، انتهى . ولا يأباه إلا لو تعين تفسير النشور بالحياة . وقال أبو مسلم : ( نشورا ) هو بمعنى الانتشار والحركة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق لطلب المعاش وابتغاء فضل الله . و ( النهار نشورا ) وما قبله من باب : ليل نائم ونهار صائم ، وهذه الآية مع دلالتها على ، فيها إظهار لنعمته على خلقه ; لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس فوائد دينية ودنيوية . وقال الشاعر : قدرة الخالق
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة ، أي : عبرة فيهما لمن اعتبر . وعن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما [ ص: 505 ] تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر .
وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة . قال ابن عطية : وقراءة الجمع أوجه ; لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح ; لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة ، ومن هاهنا وهاهنا وشيئا إثر شيء ، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما تأتي جسدا واحدا ; ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه . قال الرماني : جمعت رياح الرحمة ; لأنها ثلاثة لواقح : الجنوب ، والصبا ، والشمال . وأفردت ريح العذاب ; لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور . قال - أي ابن عطية - : يرد هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هبت الريح : " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " ، انتهى . ولا يسوغ أن يقال : هذه القراءة أوجه ; لأنه كلا من القراءتين متواتر ، والألف واللام في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر ; لأنه يجوز أن يريد بقوله - عليه السلام - : " رياحا " . الثلاثة اللواقح ، وبقوله " ولا تجعلها ريحا " الدبور . فيكون ما قاله الرماني مطابقا للحديث على هذا المفهوم .
وتقدم الخلاف في قراءة ( نشرا ) ، وفي مدلوله في الأعراف ( بين يدي رحمته ) استعارة حسنة ، أي : قدام المطر ; لأنه يجيء معلما به . والطهور فعول إما للمبالغة كنئوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسما لما يتطهر به كالسحور والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر ; حكاه . والظاهر في قوله : ( سيبويه ماء طهورا ) أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه ، فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه ، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر . وقال ثعلب : هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره ، فإن كان ما قاله شرحا لمبالغته في الطهارة كان سديدا ، ويعضده ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، وإلا ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) . وقال الشاعر :
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور
وقرأ عيسى وأبو جعفر ( ميتا ) بالتشديد ووصف ( بلدة ) بصفة المذكر ; لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله : ( فسقناه إلى بلد ميت ) ، ورجح الجمهور التخفيف ; لأنه يماثل فعلا من المصادر ، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد ، فإنه يماثل فاعلا من حيث قبوله للثاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث . وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما : ( ونسقيه ) بفتح النون ، ورويت عن . وقرأ عمر بن الخطاب : ( وأناسي ) بتخفيف الياء . ورويت عن يحيى بن الحارث الذماري : وأناسي جمع إنسان في مذهب الكسائي . وجمع إنسي في مذهب سيبويه الفراء والمبرد ، والقياس أناسية كما قالوا في مهلبي مهالبة . وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين ، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي ; لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراما له وتتميما للنعمة عليه ، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش . وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي ; لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو السبب في ذلك ; ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم . ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة ; لأن كثيرا منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر ، وكذلك : ( والزجاج لنحيي به بلدة ميتا ) يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ، بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون ; فهم غنيون - غالبا - عن سقي ماء المطر ، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب ; لأن الطيور [ ص: 506 ] والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، فإنها قنية الأناسي ، ومنافعهم متعلقة بها ، فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم .
والضمير في ( صرفناه ) عائد على الماء المنزل من السماء ، أي : جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض ، وهو في كل عام بمقدار واحد ; قاله الجمهور منهم : ، ابن مسعود ، وابن عباس ومجاهد . فعلى هذا التأويل ( إلا كفورا ) هو قولهم بالأنواء والكواكب ; قاله عكرمة . وقيل : ( كفورا ) على الإطلاق لما تركوا التذكر . وقال أيضا : عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر ; لوضوح الأمر ، ويعضده : ( وجاهدهم به ) ; لتوافق الضمائر ، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن . وقال ابن عباس أبو مسلم : راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة . وقال : صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ، ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث بها . وقيل : صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة ، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور . وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته . وعن الزمخشري : ما من عام أقل مطرا من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء ، وتلا هذه الآية . ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام ; لأنه لا يختلف ، ولكن يختلف في البلاد ، وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي ، كأنه قال : ليحيي به بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير ، انتهى . وقرأ ابن عباس عكرمة ( صرفناه ) ، بتخفيف الراء .