[ ص: 98 ] أي : اذكر يوم نحشر ، والحشر : الجمع على عنف . ( من كل أمة ) أي من الأمم ، ومن هي للتبعيض . ( فوجا ) أي جماعة كثيرة . ( ممن يكذب بآياتنا ) من للبيان ، أي الذين يكذبون . والآيات : الأنبياء ، أو القرآن ، أو الدلائل ، أقوال . ( فهم يوزعون ) تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة . وعن ، ابن مسعود أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : بين يدي أهل مكة ، كذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . ( حتى إذا جاءوا ) أي إلى الموقف ؛ ( قال أكذبتم بآياتي ) استفهام توبيخ وتقريع وإهانة ؛ ( ولم تحيطوا بها علما ) الظاهر أن الواو للحال ، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علما بكنهها ؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف ، أي أجحدتموها : ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها ، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه إليه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علما . وقيل : ( ولم تحيطوا بها علما ) أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . و " أم " هنا منقطعة ، وينبغي أن تقدر ببل وحدها . انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضا على جهة التوبيخ ، أي : أي شيء كنتم تعملون ؟ والمعنى : إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا ، وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب . وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاما منصوبا بخبر كان ، وهو تعملون ، وأن يكون " ما " هو الاستفهام ، وذا موصول بمعنى [ ص: 99 ] الذي ، فيكونان مبتدأ وخبرا ، وكان صلة لذا والعائد محذوف ، أي تعملونه . وقرأ أبو حيوة : أماذا ، بتخفيف الميم ، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد .
( ووقع القول ) أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله . ( فهم لا ينطقون ) أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ، وانتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة ، أو من فريق من الناس ؛ لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن .
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ، ليرتدع بسماعها من أراد الله - تعالى - ارتداعه ، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم ، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله - تعالى - فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية . وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت ، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضا على النبوة ؛ لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : ( لتسكنوا فيه ) وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ، وعلل جعل الليل بقوله : ( لتسكنوا فيه ) أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم . قال بعض الرجاز :
النوم راحة القوى الحسية من حركات والقوى النفسية
ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى بقوله : ( مبصرا ) قيدا في جعل النهار ، لا علة للجعل . فقال : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ؛ لأن معنى مبصرا : لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب . انتهى . والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله ، وحذف من آخره ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتنصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : ( الزمخشري وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ) ؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلما ، والتصرف علة لجعل النهار مبصرا وتقدم لنا : الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله : ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ) .
( إن في ذلك ) أي في هذا الجعل ( لآيات لقوم يؤمنون ) لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم . ( ويوم ينفخ في الصور ) تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي نفخة الفزع . وروى : أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور . وقيل : نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : ( أبو هريرة ثم نفخ فيه أخرى ) ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله . وقال صاحب الغنيان : ( ويوم ينفخ في الصور ) للبعث من القبور والحشر ، وعبر هنا بالماضي في قوله : ( ففزع ) وإن كان لم يقع إشعارا بصحة وقوعه ، وأنه كائن لا محالة ، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل ، كقوله تعالى : ( فأوردهم النار ) بعد قوله : ( يقدم قومه يوم القيامة ) .
( إلا من شاء الله ) أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه . فقال مقاتل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - عليهم السلام - . وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم ، فهم حريون أن لا ينالهم هذا . وقال الضحاك : الحور العين ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى ؛ لأنه صعق مرة . وقال : هم الشهداء ، ورواه أبو هريرة حديثا ، وهو : أبو هريرة " أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون " ، وهو قول ابن جبير ، قال : هم [ ص: 100 ] الشهداء متقلدو السيوف حول العرش . وقيل : هم المؤمنون لقوله : ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) . قال بعض العلماء : ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل . قال القرطبي : خفي عليه حديث ، وقد صححه أبي هريرة ، فيعول عليه في التعيين ، وغيره اجتهاد . وهذا النفخ هو حقيقة ، إما في القرن ، وإما في الصور ، وهو قول الأكثرين . وقيل : يجوز أن يكون تمثيلا لدعاء الموتى ، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت ، فيكون ذلك مجازا . والأول قول الأكثرين ، وهو الصواب ، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح . وقيل : ففزع ، ليس من الفزع بمعنى الخوف ، وإنما معناه : أجاب وأسرع إلى البقاء . القاضي أبو بكر بن العربي
( وكل أتوه ) المضاف إليه كل محذوف تقديره : وكلهم . وقرأ الجمهور : آتوه ، اسم فاعل ؛ وعبد الله ؛ وحمزة ، وحفص : أتوه ، فعلا ماضيا ، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع ، وقتادة : أتاه ، فعلا ماضيا مسندا لضمير " كل " على لفظها ، وجمع داخرين على معناها . وقرأ الحسن ، : " دخرين " ، بغير ألف . قيل : ومعنى آتوه : حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له . ( والأعمش وترى الجبال ) هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى ، أو من الجبال . و " جامدة " ، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه ، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور ، وهي أول أحوال الجبال ، تموج وتسير ، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ، ثم تكون هباء منبثا في آخر الأمر . ( وهي تمر مر السحاب ) جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب . قيل : في كونها تمر مرا حثيثا ، كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها ، كما قال في صفة جيش : النابغة الجعدي
نار عن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا ، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة . وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مرا حثيثا . انتهى . وقيل : وصف - تعالى - الجبال بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه . فأول الصفات : ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ، وبالنسف برزت ، ونسفها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار ، ثم كونها سرابا ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئا كالسراب . وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها .
وانتصب ( صنع الله ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه مضمر من لفظه . وقال : ( الزمخشري صنع الله ) من المصادر المؤكدة كقوله : ( وعد الله ) و ( صبغة الله ) إلا أن مؤكده [ ص: 101 ] محذوف ، وهو الناصب لـ " يوم ينفخ " ، والمعنى : ( ويوم ينفخ في الصور ) فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ، ثم قال : ( صنع الله ) يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) يعني ؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ، من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك . ثم لخص ذلك بقوله : ( من جاء بالحسنة فله ) إلى آخر الآيتين . فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، ويا لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادي على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان . ألا ترى إلى قوله : ( صنع الله ) و ( صبغة الله ) و ( وعد الله ) و ( فطرة الله ) ؟ بعدما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها بقوله : " الذي أتقن كل شيء " ، " ومن أحسن من الله صبغة " ، " إن الله لا يخلف الميعاد " ، " لا تبديل لخلق الله " ؟ انتهى . وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة .
والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ، وهو قلعها من الأرض ، ومرها مرا مثل مر السحاب . وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب لـ " يوم ينفخ " إلى قوله " صنع الله " ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا يصح ؛ لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ؛ لأنه منصوب بفعل من لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف كثير مخل . ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحا بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ؛ إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي التوكيد ؛ لأنه من حيث أكد معتنى به ، ومن حيث حذف غير معتنى به . وقيل : انتصب " صنع الله " على " الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله . وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب .
ولما ذكر علامات القيامة ، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة . والحسنة : الإيمان . وقال ، ابن عباس والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين : أحدهما : أنه له خير منها ، ويظهر أن خيرا ليس أفعل تفضيل ، ومن لابتداء الغاية ، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها ، أي من جهة هذه الحسنة ، والخير هنا : الثواب . وهذا قول الحسن ، ، وابن جريج وعكرمة . قال عكرمة : ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله ، يريد أنها ليست أفعل التفضيل . وقيل : أفعل التفضيل . فقال : فله خير منها ، يريد الإضعاف ، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . انتهى . وقوله : وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد ، تركيب مختلف فيه ، فبعض العلماء منعه ، والصحيح جوازه . وقال الزمخشري ابن عطية : يحتمل أن يكون للتفضيل ، ويكون في قوله : منها ، حذف مضاف تقديره : خير من قدرها واستحقاقها ، بمعنى : أن الله - تعالى - تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته . قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشرا ، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل . انتهى . وقيل : ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النظر إلى وجهه الكريم . وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ، ولو لم تحمل الآية على ذلك ، لزم أن يكون الأكل والشرب خيرا من معرفة الله - تعالى - وذلك لا يكون . وقرأ الكوفيون : من فزع ، بالتنوين ، و " يومئذ " ، منصوب على الظرف معمول لقوله : آمنون ، أو لـ " فزع " . ويدل على أنه معمول له قراءة من [ ص: 102 ] أضافه إليه ، أو في موضع الصفة لـ " فزع " ، أي كائن في ذلك الوقت . وقرأ باقي السبعة : بإضافة " فزع " إلى يومئذ ؛ فكسر الميم العربيان ، وابن كثير ، ، عن وإسماعيل بن جعفر نافع ، وفتحها ، بناء لإضافته إلى غير متمكن ؛ نافع ، في غير رواية إسماعيل . والتنوين في " يومئذ " تنوين العوض ، حذفت الجملة وعوض منها ، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف ، أي يوم إذ جاء بالحسنة ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ترى الجبال ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ينفخ في الصور ، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب ، ويكون الفزع إذ ذاك واحدا . وقال أبو علي ما معناه : من فزع ، بالتنوين ، أو بالإضافة ، ويجوز أن يراد به فزع واحد ، وأن يراد به الكثرة ؛ لأنه مصدر . فإن أريد الكثرة ، شمل كل فزع يكون في القيامة ، وإن أريد الواحد ، فهو الذي أشير إليه بقوله : لا يحزنهم الفزع الأكبر . وقال : ( فإن قلت ) : ما الفرق بين الفزعين ؟ ( قلت ) : الفزع الأول : ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع ، وهو يفجأ من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به . والثاني : الخوف من العذاب . انتهى . والسيئة : الكفر والمعاصي ممن ختم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار . وخصت الوجوه ، إذ كانت أشرف الأعضاء ، ويلزم من كبها في النار كب الجميع ، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان ، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة ، كما قال : " الزمخشري فكبكبوا فيها " ، فكأنه قيل : فكبوا في النار . والظاهر من كبت ، أنهم يلقون في النار منكوسين ، قاله أبو العالية ، أعلاهم قبل أسفلهم . ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار ، قاله الضحاك . هل تجزون : خطاب لهم على إضمار القول ، أي يقال لهم وقت الكب : هل تجزون . ثم أمر تعالى نبيه أن يقول : إنما أمرت ، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل ، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى . " أن أعبد " : أي أفرده بالعبادة ، ولا أتخذ معه شريكا ، كما فعلت قريش ، وهذه إشارة تعظيم كقوله : وهذا كتاب أنزلناه ، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه . والبلدة : مكة ، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا ، ولا تعارض بين قوله : الذي حرمها ، وقوله عليه السلام : إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة " ؛ لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه ، وإسناده إلى " إن إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته . وفي قوله : حرمها ، تنبيه بنعمته على قريش ؛ إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب ، وأهلك من أرادها بسوء . وقرأ الجمهور : الذي : صفة للرب . وقرأ ، ابن مسعود : التي حرمها : صفة للبلدة ، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة ، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : " وله كل شيء " ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته ، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص ، وعلى جهة العموم . وأمرت أن أكون من المسلمين : أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله ، فأعبده كما أمرني ، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : هو سماكم المسلمين ، وابن عباس وأن أتلو القرآن ، إما من التلاوة ، أي : وأن أتلو عليكم القرآن ، وهذا الظاهر ، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة ، وإما من المتلو ، أي : وأن أتبع القرآن ، كقوله : واتبع ما يوحى إليك . وقرأ الجمهور : وأن أتلو . وقرأ عبد الله : وأن اتل ، بغير واو ، أمرا من تلا ، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار : وأمرت أن أتل ، أي اتل . وقرأ أبي : واتل هذا القرآن ، جعله أمرا دون أن . فمن اهتدى ، به ووحد الله ونبيه وآمن بما جاء به ، فثمرة هدايته مختصة به . ومن ضل ، فوبال إضلاله مختص به ، وحذف جواب من ضل لدلالة جواب مقابله عليه ، أو يقدر في قوله : " فقل إنما أنا من المنذرين " ضمير حتى يربط الجزاء بالشرط ، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفا ، فلا بد في جملة الجواب [ ص: 103 ] من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر ، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط ، ويقدر الضمير : من المنذرين له ، ليس علي إلا إنذاره ، وأما هدايته فإلى الله . وقل الحمد لله : أمر أن يقول ذلك ، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة ، واختصه من رفيع المنزلة . سيريكم آياته : تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار أنها آيات الله . قال الحسن : وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم المعرفة . وقال الكلبي : في الدنيا ؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات الله . وقيل : يوم بدر . وقيل : خروج الدابة ، ولو بعد حين . وقيل : آياته في أنفسكم وفي سائر ما خلق ، مثل قوله : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم " . وقيل : معجزات الرسول ، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على يدي رسوله ، ومظهرها من جهته . " فتعرفونها " : أي حقيقتها ، ولا يسعكم جحودها . وقرأ الجمهور : " عما يعملون " ، بياء الغيبة ، التفاتا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ؛ ونافع ، وابن عامر : بتاء الخطاب لقوله : سيريكم . ولما قسمهم إلى مهتد وضال ، أخبر - تعالى - أنه محيط بأعمالهم ، غير غافل عنها .