هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة ، وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمرهم الله وخرب ديارهم . و ( معيشتها ) منصوب على التمييز ، على مذهب الكوفيين أو مشبه بالمفعول على مذهب بعضهم ، أو مفعول به على تضمين ( بطرت ) معنى فعل متعد ، أي خسرت معيشتها ، على مذهب أكثر البصريين ، أو على إسقاط " في " أي في معيشتها على مذهب الأخفش ؛ أو على الظرف على تقدير أيام معيشتها كقولك : جئت خفوق النجم ، على قول . ( الزجاج فتلك مساكنهم ) أشار إليها ، أي ترونها خرابا ، تمرون عليها كحجر ثمود ، هلكوا وفنوا ، وتقدم ذكر المساكن . و ( تسكن ) فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله : ( إلا قليلا ) من المساكن : أي إلا قليلا منها سكن ، واحتمل أن يكون من المصدر المفهوم من قوله لم [ ص: 127 ] تسكن أي إلا سكنى قليلا ، أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق . ( وكنا نحن الوارثين ) أي لتلك المساكن وغيرها كقوله : ( إنا نحن نرث الأرض ) خلت من ساكنيها فخربت .
تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع
والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت ، فالمعنى أنه - تعالى - لا يهلكها في كل وقت . حتى يبعث في أم تلك القرى أي كبيرتها ، التي ترجع تلك القرى إليها ، ومنها يمتارون ، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى . ( حتى يبعث في أمها رسولا ) لإلزام الحجة وقطع المعذرة . ويحتمل أن يراد بالقرى : القرى التي في عصر الرسول ، فيكون أم القرى : مكة ، ويكون الرسول : محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء ، وظلم أهلها : هو بالكفر والمعاصي . ( وما أوتيتم من شيء ) أي حسن يسركم وتفخرون به ( فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ) تمتعون أياما قلائل ( وما عند الله ) من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين ( خير ) . من متاعكم ( أفلا تعقلون ) توبيخ لهم . وقرأ أبو عمرو : يعقلون ، بالياء ، إعراض عن خطابهم وخطاب لغيرهم ، كأنه قال : انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم . وقرأ الجمهور : بالتاء من فوق ، على خطابهم وتوبيخهم ، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة . ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده ، وفي التحرير والتحبير بين الياء والتاء ، عن أبي عمرو . وقرئ : متاعا الحياة الدنيا ، أي يمتعون متاعا في الحياة الدنيا ، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف .
( أفمن وعدناه ) يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد ( وعدا حسنا ) وهو الثواب فلاقاه ، ومن متع في الحياة الدنيا ، ثم أحضر إلى النار . وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر . قيل : ونزلت في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل . وقيل : في حمزة وأبي جهل . وقيل : في علي وأبي جهل . وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة . وقيل : نزلت في المؤمن والكافر ، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله : ( لكنت من المحضرين ) ( فكذبوه فإنهم لمحضرون ) . والفاء في : ( أفمن ) للعطف ، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة ، وما عند الله من الثواب ، قال : أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ؟ والفاء في : ( فهو لاقيه ) للتسبيب ؛ لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر ، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته . وقرأ طلحة : " أمن وعدناه " بغير فاء .