[ ص: 145 ] ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله ، لما كان يلقى من أذى الكفار . فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه . والواو في ( ولقد ) واو عطف ، عطفت جملة على جملة . قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره . والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله . وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه . انتهى . وليس عندي محتملا ; لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافا مضطربا متكاذبا ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير . والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ; لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه . ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ; لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاما ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي .
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة . والضمير في ( وجعلناها ) يحتمل أن يعود على ( السفينة ) وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد ( آية ) وجاء بالفاصلة ( للعالمين ) لأن إنجاء السفن أمر معهود . فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم بها لهم ، فناسب ذلك قوله : ( للعالمين ) وانتصب ( إبراهيم ) عطفا على ( نوحا ) . قال ابن عطية : أو على الضمير في ( فأنجيناه ) . وقال هو : بتقدير " اذكروا " بدل منه ، إذ بدل اشتمال منه ; لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ، فلا يكون مفعولا به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر ، وإذا كانت ظرفا لما مضى ، فهو لو كان منصرفا ، لم يجز أن يكون معمولا لـ : " اذكر " ; لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز : ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولا به ومعمولا لـ : اذكر . وقرأ والزمخشري النخعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم . وهذه القصة تمثيل لقريش ، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة الله ، وكان نمروذ وأهل مدينته عباد أصنام . وقرأ الجمهور : ( وتخلقون ) مضارع خلق ( إفكا ) بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ علي ، والسلمي ، وعون العقيلي ، وعبادة ، ، وابن أبي ليلى : بفتح التاء والخاء واللام مشددة . قال وزيد بن علي ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة . وقرأ أيضا ، فيما ذكر زيد بن علي الأهوازي : " تخلقون " ، من خلق المشدد . وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : " أفكا " ، بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب . قال : ( ابن عباس وتخلقون إفكا ) هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكا توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة . وقال مجاهد : هو اختلاق الكذب في أمر [ ص: 146 ] الأوثان وغير ذلك . وقال : " إفكا " فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدرا نحو : كذب ولعب ، والإفك مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي : خلقا إفكا ، ذا إفك وباطل ، واختلاقهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه ، أو سمى الأصنام إفكا ، وعملهم لها ونحتهم خلقا للإفك . انتهى . الزمخشري
وهذا الترديد منه في نحو : ( وتخلقون إفكا ) قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله : ( لا يملكون لكم رزقا ) على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامتهم وخاصتهم ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي : لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ، وخص الرزق لمكانته من الخلق . ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد ; لدلالته على العموم ; لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها . ( واشكروا له ) على نعمه السابغة من الرزق وغيره . ( وإليه ترجعون ) أي : إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر . ثم قال : ( وإن تكذبوا ) أي : ليس هذا مبتكرا منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ، قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم . وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنينه ، وباقيهم على التكذيب . ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . وقرأ حمزة ، ، والكسائي وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب ; وباقي السبعة : بالياء . والجمهور : ( يبدئ ) ، مضارع أبدأ ; والزبير ، وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : " يبدأ " ، مضارع بدأ . وقرأ : ( الزهري كيف بدأ الخلق ) بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ، فذهبت في الوصل ، وهو تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر :
فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : ( أولم يروا ) وفي : ( فانظروا كيف بدأ الخلق ) إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود ، وقوله : ( ثم يعيده ) وقوله : ( ثم الله ينشئ ) ليس داخلا تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس ( ثم يعيده ) معطوفا على ( يبدئ ) ، ولا ( ثم ينشئ ) داخلا تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخبارا من الله تعالى بالإعادة بعد الموت . وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجبا مقطوعا بعامة ، ولا شك فيه . وقال قتادة : ( أولم يروا ) بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ وقال : المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب ؟ وقال الربيع بن أنس مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ; وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي : فتنشئون النشأة .
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : ( كيف يبدئ الله الخلق ، ثم أضمر في قوله ( ثم يعيده ) وهنا عكس أضمر في " بدأ " ثم أبرزه في قوله : ( ثم الله ينشئ ) حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه . ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة ، وتعظيم أمرها ، وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي ( ينشئ النشأة الآخرة ) فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه . والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة . ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها . ثم أخبر بأنه ( يعذب من يشاء ) أي : تعذيبه ( ويرحم من يشاء ) رحمته ، وبدأ بالعذاب ; لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل . ( وإليه تقلبون ) أي : تردون . وقال : ومتعلق [ ص: 147 ] المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ( الزمخشري وما أنتم بمعجزين ) أي : فائتين ما أراد الله لكم . ( في الأرض ولا في السماء ) إن حمل ( السماء ) على العلو فجائز ، أي : في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصا بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي : لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى :
ولو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهره وتعلم أني فيك لست بمحرم
وقوله تعالى : ( إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ) على تقدير الحكم لو كنتم فيها ( والأرض فانفذوا ) . وقال ابن زيد ، : التقدير : ولا من في السماء ، أي : يعجز إن عصى . وقال والفراء الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن ينصره ، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ; لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته . وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجن ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون الله ؟ وقرأ الجمهور : ( يئسوا ) بالهمز ; والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل الهمزة ، وهو وعيد ، أي : ييئسون يوم القيامة . وقيل : ( من رحمتي ) . وقيل : من ديني ، فلا أهديهم . وقيل : هو وصف بحالهم ; لأن المؤمن يكون دائما راجيا خائفا ، والكافر لا يخطر بباله ذلك . شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة . والظاهر أن قول : ( وإن تكذبوا ) من كلام الله ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله : ( عذاب أليم ) . وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم ، والإخبار عن جواب قومه ، أي : وإن تكذبوا محمدا ، فتقدير هذه الجملة اعتراضا يرد على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الاعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله . وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد .