( وإلى مدين ) أي : وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى . أمرهم بعبادة الله ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر . والأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب . والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله ، أو يكون أمرا بالرجاء على تقدير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان بالله . وقال أبو عبيدة : ( وارجوا ) خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم ; إن لم تعبدوه . وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ; كذلك جاء : ( فكذبوه ) وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي : ( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) وتقدم تفسير مثل هذه الجمل . وانتصب ( وعادا وثمود ) بإضمار أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه . وقيل : بالعطف على الضمير في ( فأخذتهم ) ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين [ ص: 152 ] من قوله : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم ) . وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ; حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي السبعة : بالتنوين . وقرأ : " ابن وثاب وعاد وثمود " ، بالخفض فيهما والتنوين عطفا على ( مدين ) ، أي : وأرسلنا إلى عاد وثمود . ( وقد تبين لكم ) أي : ذلك ، أي : ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم . وقرأ : " مساكنهم " ، بالرفع من غير " من " ، فيكون فاعلا بـ : ( تبين ) . الأعمش
( وزين لهم الشيطان ) أي : بوسوسته وإغوائه ( أعمالهم ) القبيحة . ( فصدهم عن سبيل الله ) ; وهي طريق الإيمان بالله ورسله . ( وكانوا مستبصرين ) أي : في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ، ابن عباس ومجاهد ، والضحاك . وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عنادا ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم . ( وقارون ) معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار " اذكر " . ( فاستكبروا ) أي : عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ; لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله ، فكيف من في الأرض ؟ ( وما كانوا سابقين ) الأمم إلى الكفر ، أي : تلك عادة الأمم مع رسلهم . والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصى ، وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه . وقال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ; لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول : الفرزدق
مستقبلين شمال الشأم تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل :
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها حتى تبيت على العضاه جفالا
العنكبوت حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر :
على هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت هو ابتناها
وقال : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ; أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن [ ص: 153 ] أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتا ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر . فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتا ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها دينا ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . انتهى . الزمخشري
وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ . لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره . وقرأ أبو عمرو ، وسلام : ( يعلم ما ) ، بالإدغام ; والجمهور : بالفك ; والجمهور : " تدعون " ، بتاء الخطاب ; وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة ; وجوزوا في ( ما ) أن يكون مفعولا بـ : ( يدعون ) ، أي : يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي : يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم . وأن تكون نافية ، أي : لستم تدعون من دونه شيئا له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئا ، وأن يكون استفهاما ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من ( يعلم ) ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : ( وهو العزيز الحكيم ) . وجوز أبو علي أن يكون ( ما ) استفهاما منصوبا بـ : ( يدعون ) ، و ( يعلم ) معلقة ; فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك . والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ( ما ) نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئا . ( وهو العزيز الحكيم ) فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ; لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلا ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة . ( وما يعقلها إلا العالمون ) أي : لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها .
وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . والإشارة بقوله : ( وتلك الأمثال ) إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور . وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال : " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .
( خلق الله السماوات والأرض ) فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها . ومعنى ( بالحق ) بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته . والظاهر أن الصلاة هي المعهودة ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أديت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى ، أن ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) . وقال ، ابن عباس والكلبي ، ، وابن جريج : تنهى ما دام المصلي فيها . وقال وحماد بن أبي سليمان : الصلاة هنا القرآن . وقال ابن عمر ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي : أقم الدعاء إلى أمر الله ، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم .
وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي ، فقال : " إن صلاته تنهاه " . فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم أقل لكم ؟ " ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم . كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي : من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به . والظاهر أن ( أكبر ) أفعل تفضيل . فقال عبد الله ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، ، وابن عباس وأبو قرة : معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه . وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء ; وقيل : ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي : أكبر ثوابا ; وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ; وقيل : ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة ; وقيل : أكبر من كل [ ص: 154 ] العبادة . وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي : هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ; لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملئه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في النهي ، هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله . وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى . وقال والذكر النافع : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : ( الزمخشري فاسعوا إلى ذكر الله ) وإنما قال : ( ولذكر الله ) لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ; لأنها ذكر الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة .