[ ص: 173 ] ( ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) .
الضر : الشدة ، من فقر ، أو مرض ، أو قحط ، أو غير ذلك ; والرحمة : الخلاص من ذلك الضر . ( دعوا ربهم ) أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر ، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى ، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع ، وإذا خلصهم من ذلك الضر ، أشرك فريق ممن أخلص ، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام . قال ابن عطية : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ، إذ جاءهم فرج بعد شدة ، علقوا ذلك بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، أو بغير ذلك ، ففيه قلة شكر الله ، ويسمى مجازا . وقال أبو عبد الله الرازي : يقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني ، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرا ، فإنه شرك خفي . انتهى . و ( إذا فريق ) جواب ( إذا أذاقهم ) الأولى شرطية ، والثانية للمفاجأة ، وتقدم نظيره ، وجاء هنا ( فريق ) ; لأن قوله : ( وإذا مس الناس ) عام للمؤمن والكافر ، فلا يشرك إلا الكافر . و ( ضر ) هنا مطلق ، وفي آخر العنكبوت ( إذا هم يشركون ) لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام ، والضر هناك معين ، وهو ما يتخوف من ركوب البحر . ( إذا هم ) أي : ركاب البحر عبدة الأصنام ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده . واللام في ( ليكفروا ) لام كي ، أو لام الأمر للتهديد ، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت .
وقرأ الجمهور : ( فتمتعوا فسوف تعلمون ) بالتاء فيهما . وقرأ أبو العالية : " فيتمتعوا " ، بالياء مبنيا للمفعول وهو معطوف على ( ليكفروا ) ، و " لسوف يعلمون " بالياء على التهديد لهم ، وعن أبي العالية " فيتمتعوا " بياء قبل التاء ، عطف أيضا على ( ليكفروا ) أي : لتطول أعمارهم على الكفر ; وعنه وعن عبد الله : " فليتمتعوا " . وقال هارون في مصحف عبد الله : " يتمتعوا " . ( أم أنزلنا ) أم : بمعنى بل ، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق ، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ . والسلطان : البرهان ، من كتاب أو نحوه . ( فهو يتكلم ) أي : يظهر مذهبهم وينطق بشركهم ، والتكلم مجاز لقوله : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) . و " هو يتكلم " : جواب للاستفهام الذي تضمنه " أم " ، كأنه قال : بل أنزلنا عليهم سلطانا ، أي : برهانا شاهدا لكم بالشرك ، فهو يشهد بصحة ذلك ، وإن قدر " ذا سلطان " ، أي : ملكا ذا برهان ، كان التكلم حقيقة .
[ ص: 174 ] ( وإذا أذقنا الناس رحمة ) أي : نعمة ، من مطر ، أو سعة ، أو صحة . ( وإن تصبهم سيئة ) أي : بلاء ، من حدث ، أو ضيق ، أو مرض . ( بما قدمت أيديهم إذا ) المعاصي . ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم ، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء . و ( إذا هم ) جواب : ( وإن تصبهم ) يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جوابا للشرط . وحين ذكر إذاقة الرحمة ، لم يذكر سببها ، وهو زيادة الإحسان والتفضل . وحين ذكر إصابة السيئة ، ذكر سببها ، وهو العصيان ، ليتحقق بدله . ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييئس من روح الله ، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض ، فينبغي أن لا يقنط ، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء ، والشكر في النعماء ، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها ، حتى تعود إليه رحمة ربه .
ومناسبة ( فآت ذا القربى ) لما قبله : أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض ، وجعل في ذلك آية للمؤمن ، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج ; لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله ، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال ، وصرفه إلى من يقرب منه من حج ، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل . وقال الحسن : هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم ( والمسكين وابن السبيل ) . وقيل : للرسول ، عليه السلام . وذو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب ، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء . وقال الحسن : حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما . واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . أثبت تعالى لذي القربى حقا ، وللمسكين وابن السبيل حقهما . وجوب النفقة للمحارم
والسورة مكية ، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقا بجهة الإحسان والمواساة . وللاهتمام بذي القربى ، قدم على المسكين وابن السبيل ; لأن بره صدقة وصلة . ( ذلك ) أي : الإيتاء ( خير ) أي : يضاعف لهم الأجر في الآخرة ، وينمو مالهم في الدنيا لوجه الله ، أي : التقرب إلى رضا الله لا يضره . ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال ; ( وما آتيتم ) أكلة الربا ، ليزيد ويزكو في المال ، فلا يزكو عند الله ، ولا يبارك فيه لقوله : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) . قال : نزلت في ربا السدي ثقيف ، كانوا يعملون بالربا ، ويعمله فيهم قريش . وقال ، ابن عباس ومجاهد ، ، وابن جبير : هذه الآية نزلت في هبات ، للثواب . وقال وطاوس ابن عطية : وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة ، كالسلم وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله . وقال أيضا ، ابن عباس والنخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به ، فذلك النفع لهم . وقال قريبا من هذا وهو : أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به ، فذلك النفع لهم . وقال الشعبي أيضا قريبا من هذا وهو : أن لا يربو عند الله ، والظاهر القول الأول ، وهو الشعبي . وقرأ الجمهور : ( النهي عن الربا وما آتيتم ) الأول بمد الهمزة ، أي : وما أعطيتم ; وابن كثير : بقصرها ، أي : وما جئتم . وقرأ الجمهور : ( ليربو ) ، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا ; ، وابن عباس والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، ، والشعبي ونافع ، وأبو حيوة : بالتاء مضمومة ، وإسناد الفعل إليهم . وقرأ أبو مالك : " ليربوها " ، بضمير المؤنث .
والمضعف : ذو أضعاف في الأجر . قال الفراء : هم أصحاب المضاعفة ، كما تقول : هو مسمن ، أي : صاحب إبل سمان ، ومعطش : أي : صاحب إبل عطشى . وقرأ أبي : " المضعفون " بفتح العين ، اسم مفعول . وقال : ( الزمخشري فأولئك هم المضعفون ) التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون ، والمعنى : المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذا ، والأول أملأ بالفائدة : انتهى . وإنما احتاج إلى [ ص: 175 ] تقدير ما قدر ; لأن اسم الشرط ليس بظرف ، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط .