( وما آتيناهم ) أهل مكة ، ( من كتب ) ، قال : من عندنا ، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به . وقال السدي ابن زيد : فنقضوا أن الشرك جائز ، وهو كقوله ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ) . وقال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : من أين كذبوا ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بذلك ؟ وقيل : وصفهم بأنهم قوم أميون ، أهل جاهلية ، ولا ملة لهم ، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول . كما قال ( أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ) ، فليس لتكذيبهم وجه مثبت ، ولا شبهة تعلق . كما يقول أهل الكتاب ، وإن كانوا مبطلين : نحن أهل الكتاب والشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله . وقيل : المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله ، يقول بعضهم سحر ، وبعضهم افتراء ، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم ، ولا إلى خبر من يقبل خبره . فإنا آتيناهم كتبا يدرسونها ، ولا أرسلنا إليهم رسولا ولا نذيرا فيمكنهم أن يدعوا ، أن أقوالهم تستند إلى أمره .
وقرأ الجمهور ( يدرسونها ) ، مضارع درس مخففا ; أبو حيوة : بفتح الدال وشدها وكسر الراء ، مضارع ادرس ، افتعل من الدرس ، ومعناه : تتدارسونها . وعن أبي حيوة أيضا : يدرسونها ، من التدريس ، وهو تكرير الدرس ، أو من درس الكتاب مخففا ، ودرس الكتاب مشددا التضعيف باعتبار الجمع . ومعنى ( قبلك ) ، قال ابن عطية : أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ، ولا يباشر أهل عصرهم ، ولا من قرب من آبائهم . وقد كانت النذارة في العالم ، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود . ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ، وإنما المعنى : من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم ، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول ( إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ) ، ولكن لم يتجرد للنذارة ، وقاتل عليها ، إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - . انتهى .
( وكذب الذين من قبلهم ) توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم ، وما آل إليه أمرهم ، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة ، وسيحل بهم ما حل بأولئك . وأن الضميرين في ( بلغوا ) وفي ( ما آتيناهم ) عائدان على ( الذين من قبلهم ) ، ليتناسقا مع قوله تعالى ( فكذبوا ) ، أي ما بلغوا في شكر [ ص: 290 ] النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم . وقال ، ابن عباس وقتادة ، وابن زيد : الضمير في ( بلغوا ) لقريش ، وفي ( ما آتيناهم ) للأمم ( الذين من قبلهم ) . والمعنى : وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال ، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك ؟ وقيل : الضمير في ( بلغوا ) عائد على ( الذين من قبلهم ) ، وفي ( آتيناهم ) على قريش ، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشا من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به . وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات ، ذكر الثاني ، والزمخشري وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث ، قال : أي ( الذين من قبلهم ) ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان ، وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام - أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد - عليه السلام - أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، ويؤيد ما ذكرنا ، ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها ) تغني عن القرآن . فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب ، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب ، وكان أولى . انتهى .
وعن : فليس أنه أعلم من أمته ، ولا كتاب أبين من كتابه . والمعشار مفعال من العشر ، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع ، ومعناهما : العشر والربع . وقال قوم : المعشار عشر العشر . قال ابن عباس ابن عطية : وهذا ليس بشيء . انتهى . وقيل : والعشر في هذا القول عشر المعشرات ، فيكون جزأ من ألف جزء . قال الماوردي : وهو الأظهر ; لأن المراد به المبالغة في التقليل . وقال : فإن قلت : ما معنى ( الزمخشري فكذبوا رسلي ) ، وهو مستغنى عنه بقوله ( وكذب الذين من قبلهم ) ؟ قلت : لما كان معنى قوله ( وكذب الذين من قبلهم ) وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه ، جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ، ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر ، فكفر بمحمد . ويجوز أن ينعطف على قوله ( ما بلغوا ) ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو ، فيفضل عليه . ( فكيف كان نكير ) للمكذبين الأولين ، ليحذروا من مثله . انتهى . و ( فكيف ) : تعظيم للأمر ، وليست استفهاما مجردا ، وفيه تهديد لقريش ، أي أنهم معرضون لنكير مثله ، والنكير مصدر كالإنكار ، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل ، والفعل على وزن أفعل ، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر ، وحذفت الياء من ( نكير ) تخفيفا لأنها أجزأته .
( قل إنما أعظكم بواحدة ) ، قال : هي طاعة الله وتوحيده . وقال : هي لا إله إلا الله . قال السدي قتادة : هي أن تقوموا . قال أبو علي ( أن تقوموا ) في موضع خفض على البدل من واحدة . وقال ( الزمخشري بواحدة ) بخصلة واحدة ، وهو فسرها بقوله ( أن تقوموا ) على أنه عطف بيان لها . انتهى . وهذا لا يجوز ; لأن بواحدة نكرة ، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله . وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من قائله . وقد رد النحويون على في قوله إن ( مقام إبراهيم ) عطف بيان من قوله ( آيات بينات ) ، وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا . والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقهم عن مجتمعهم عنده . والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، ثم تتفكروا في أمر الزمخشري محمد وما جاء به . وإنما قال ( مثنى وفرادى ) ; لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا [ ص: 291 ] يوقف فيها على تحقيق . وأما الاثنان ، إذا نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن يعدوهما . وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عاريا عن التعصب ، طالبا للحق ، فبعيد أن يعدوه . وانتصب ( مثنى وفرادى ) على الحال ، وقدم مثنى ; لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد ذلك ، فيزيد بصيرة . قال الشاعر :
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
( ثم تتفكروا ) عطف على ( أن تقوموا ) ، فالفكرة هنا في حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما نسبوه إليه . فإن الفكرة تهدي غالبا إلى الصواب إذا عري صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله ( ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) ، نفي مستأنف . قال ابن عطية : وهو عند جواب ما ينزل منزلة القسم ; لأن ( تفكر ) من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به . انتهى . واحتمل أن يكون تتفكروا معلقا ، والجملة المنفية في موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على سيبويه محمد . فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلا ، وأثبتهم ذهنا ، وأصدقهم قولا ، وأنزههم نفسا ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز ، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب . والظاهر أن ما للنفي ، كما شرحنا . وقيل : ما استفهام ، وهو استفهام لا يراد به حقيقته ، بل يئول معناه إلى النفي ، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون ، أي ليس به شيء من ذلك . ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه ( نذير بين يدي عذاب شديد ) أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به ، و ( بين يدي ) يشعر بقرب العذاب .
( قل ما سألتكم من أجر ) الآية في التبري من طلب الدنيا ، وطلب الأجر على النور الذي أتى به ، والتوكل على الله فيه . واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ ، والعائد من الصلة محذوف تقديره : سألتكموه ، و ( فهو لكم ) الخبر . ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم ، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط . وقوله ( ما سألتكم من أجر فهو لكم ) على معنيين : أحدهما : نفي مسألة للأجر ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن ، ويؤيده ( إن أجري إلا على الله ) . والثاني : أن يريد بالأجر ما في قوله ( قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) ، وفي قوله ( لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ; لأن اتخاذ السبيل إلى الله يصيبهم ما فيه نفعهم ، وكذلك المودة في القرابة ; لأن القرابة قد انتظمت وإياهم ، قاله ، وفيه بعض زيادة . قال الزمخشري : الأجر : المودة في القربى . وقال ابن عباس قتادة ( فهو لكم ) ، أي ثمرته وثوابه ، لأني سألتكم صلة الرحم . وقال مقاتل : تركته لكم . ( وهو على كل شيء شهيد ) مطلع حافظ ، يعلم أني لا أطلب أجرا على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء .
والقذف : الرمي بدفع واعتماد ، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله ( فاقذفيه في اليم ) ، ( وقذف في قلوبهم الرعب ) . قال قتادة ( يقذف بالحق ) يبين الحجة ويظهرها . وقال ابن القشيري : يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها ; لأنه ( علام الغيوب ) ، وأنا مستمسك بما يقذف إلي من الحق . وأصل القذف : الرمي بالسهم ، أو الحصى والكلام . وقال : يقذف الباطل بالحق ، والظاهر أن بالحق هو المفعول ، فالحق هو المقذوف محذوفا ، أي يقذف ، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل ، فتكون الباء إما للمصاحبة ، وإما للسبب ، ويؤيد هذا [ ص: 292 ] الاحتمال كون ( قذف ) متعديا بنفسه ، فإذا جعلت بالحق هو المفعول ، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها . وقرأ الجمهور : ( علام ) بالرفع ، فالظاهر أنه خبر ثان ، وهو ظاهر قول الزجاج ، قال : هو رفع ; لأن التأويل قل : رب علام الغيوب . وقال ابن عباس : رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف . انتهى . أما الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب الزمخشري ، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو . وأما قوله على المستكن في يقذف ، فلم يبين وجه حمله ، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف . وقال سيبويه : هو نعت لذلك الضمير ; لأن مذهبه جواز نعت المضمر الغائب . وقرأ الكسائي عيسى ، وابن أبي إسحاق ، ، وزيد بن علي ، وابن أبي عبلة وأبو حيوة ، وحرب عن طلحة : ( علام ) بالنصب ; فقال : صفة لربي . وقال الزمخشري أبو الفضل الرازي ، وابن عطية : بدل . وقال الحوفي : بدل أو صفة ; وقيل : نصب على المدح . وقرئ : ( الغيوب ) بالجر ، أما الضم فجمع غيب ، وأما الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر ، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو ; وأما الفتح فمفعول للمبالغة ، كالصبور ، وهو الشيء الذي غاب وخفي جدا .
ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع ، أخبر أن الحق قد جاء ، وهو القرآن والوحي ، وبطل ما سواه من الأديان ، فلم يبق لغير الإسلام ثبات ، لا في بدء ولا في عاقبة ، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله ، كما قال ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) . وقال قتادة : الباطل : الشيطان ، لا يخلق شيئا ولا يبعثه . وقال الضحاك : الأصنام لا تفعل ذلك . وقال أبو سليمان : لا يبتدئ الصنم من عنده كلاما فيجاب ، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة . وقيل : الباطل : الذي يضاد الحق ، فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحق ، فلم يبقى منه بقية ، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فصار قولهم : لا يبدي ولا يعيد ، مثلا في الهلاك ، ومنه قول الشاعر :
أفقر من أهيله عبيد فاليوم لا يبدي ولا يعيد
والظاهر أن ما نفي ، وقيل : استفهام ومآله إلى النفي ، كأنه قال : أي شيء يبدئ الباطل ، أي إبليس ، ويعيده ، قاله وفرقة معه . وعن الزجاج الحسن : لا يبدئ ، أي إبليس ، لأهله خيرا ، ولا يعيده : أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقيل : الشيطان : الباطل ; لأنه صاحب الباطل ; لأنه هالك ، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك . وقيل : الحق : السيف . عن : دخل رسول الله ابن مسعود مكة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول : " ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ، ( جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) " .
وقرأ الجمهور ( قل إن ضللت ) ، بفتح اللام ، ( فإنما أضل ) ، بكسر الضاد . وقرأ الحسن ، وابن وثاب ، وعبد الرحمن المقري : بكسر اللام وفتح الضاد ، وهي لغة تميم ، وكسر عبد الرحمن همزة ( أضل ) . وقال : لغتان نحو : ضللت أضل ، وظللت أظل . ( الزمخشري وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ) ، وأن تكون مصدرية ، أي فبوحي ربي . والتقابل اللفظي : وإن اهتديت فإنما أهتدي لها ، كما قال ( ومن أساء فعليها ) ، مقابل ( من عمل صالحا فلنفسه ) ، ( ومن ضل فإنما يضل عليها ) ، مقابل ( فمن اهتدى فلنفسه ) ، أو يقال : فإنما أضل بنفسي . وأما في الآية فالتقابل معنوي ; لأن النفس كل ما عليها فهو لها ، أي كل وبال عليها فهو بسببها . ( إن النفس لأمارة بالسوء ) وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكل مكلف . وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه ; لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به . انتهى ، وهو من كلام . ( الزمخشري إنه سميع قريب ) ، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله .
والظاهر أن قوله ( ولو ترى إذ فزعوا ) ، أنه وقت البعث وقيام الساعة ، وكثيرا جاء : [ ص: 293 ] ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) ، ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ) ، وكل ذلك في يوم القيامة ; وعبر بفزعوا ، وأخذوا ، وقالوا ; وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق . وقال ، ابن عباس والضحاك : هذا في عذاب الدنيا . وقال الحسن : في الكفار عند خروجهم من القبور . وقال مجاهد : يوم القيامة . وقال ابن زيد ، والسدي : في أهل بدر حين ضربت أعناقهم ، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب ، ولا رجوعا إلى التوبة . وقال ابن جبير ، وابن أبي أبزى : في جيش لغزو الكعبة ، فيخسف بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، قالوا ، وله قيل :
وعند جهينة الخبر اليقين
وروي في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة . وذكر أنه ضعيف السند ، مكذوب فيه على رواية الطبري ابن الجراح . وقال ، وعن الزمخشري : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفا يغزون ابن عباس الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم . وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره ، ذلك حين ينزل دمشق ، فيبعث جيشا إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل - عليه السلام - فيضربها ، أي الأرض ، برجله ضربة ، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، فذلك قوله ( فلا فوت ) ، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة ، ولذلك جرى المثل : " وعند جهينة الخبر اليقين " ، اسم أحدهما بشير ، يبشر أهل مكة ، والآخر نذير ، ينقلب بخبر السفياني . وقيل : لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة ، ينقلب وجهه إلى قفاه . ومفعول ترى محذوف ، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت ، أي لا يفوتون الله ، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم . وقال الحسن : فلا فوت من صيحة النشور ، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها . انتهى . أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم ، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا . ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم ، فحيث ما كانوا هو قريب .
وقرأ الجمهور ( فلا فوت ) ، مبني على الفتح ، ( وأخذوا ) فعلا ماضيا ، والظاهر عطفه على ( فزعوا ) ، وقيل : على ( فلا فوت ) ; لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا . وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه ، وطلحة ; فلا فوت ، وأخذ مصدرين منونين . وقرأ أبي : فلا فوت مبنيا ، ( وأخذ ) مصدرا منونا ، ومن رفع ( وأخذ ) فخبر مبتدأ ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ ، أي وهناك أخذ . وقال : وقرئ : وأخذ ، وهو معطوف على محل فلا فوت ، ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ . انتهى . كأنه يقول : لا فوت مجموع لا ، والمبني معها في موضع مبتدأ ، وخبره هناك ، فكذلك ( وأخذ ) مبتدأ ، وخبره هناك ، فهو من عطف الجمل ، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب . والضمير في به عائد على الله ، قاله الزمخشري مجاهد ، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب . وقال الحسن : على البعث . وقال مقاتل : على القرآن . وقيل : على العذاب . وقال وغيره : على الرسول ، لمرور ذكره في قوله ( الزمخشري ما بصاحبكم من جنة ) . ( وأنى لهم التناوش ) ، قال : التناوش : الرجوع إلى الدنيا ، وأنشد ابن عباس : ابن الأنباري
تمنى أن تئوب إلي مي وليس إلى تناوشها سبيل
أي : تتمنى ، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا . مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد ، كما يتناوله الآخر من قرب . وقرأ الجمهور : التناوش بالواو . وقرأ حمزة ، . والكسائي وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالهمز ، ويجوز أن [ ص: 294 ] يكونا مادتين ، إحداهما النون والواو والشين ، والأخرى والهمزة والشين ، وتقدم شرحهما في المفردات . ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو ، على ما قاله ، وتبعه الزجاج الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ، وقال : كل واو مضمومة ضمة لازمة ، فأنت فيها بالخيار ، إن شئت تثبت همزتها ، وإن شئت تركت همزتها . تقول : ثلاث أدور بلا همز ، وأدؤر بالهمز . قال : والمعنى : من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها ; لأنها إنما تقبل في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة ، وذلك قوله تعالى ( الزجاج من مكان بعيد ) . وقال : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور . وقال الزمخشري ابن عطية : وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش ، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة ، كما قالوا : أفتيت . وقال الحوفي : ومن همز احتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من الناش ، وهو الحركة في إبطاء ، ويجوز أن يكون من ناش ينوش ، همزت الواو لانضمامها ، كما همزت أفتيت وأدور . وقال أبو البقاء : ويقرأ بالهمز من أجل الواو ، وقيل : هي أصل من ناشه . انتهى . وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة ، ليس على إطلاقه ، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها ، ونحو يعود وتعوذ مصدرين ; ولا إذا صحت في الفعل نحو : ترهوك ترهوكا ، وتعاون تعاونا ، ولم يسمع همزتين من ذلك ، فلا يجوز . والتناوش مثل التعاون ، فلا يجوز همزه ; لأن واوه قد صحت في الفعل ، إذ يقول : تناوش .
( وقد كفروا به ) الضمير في به عائد على ما عاد عليه ( آمنا به ) على الأقوال ، والجملة حالية ، و ( من قبل ) نزول العذاب . وقرأ الجمهور ( ويقذفون ) مبنيا للفاعل ، حكاية حال متقدمة . قال الحسن : قولهم لا جنة ولا نار ، وزاد قتادة : ولا بعث ولا نار . وقال ابن زيد : طاعنين في القرآن بقولهم ( أساطير الأولين ) . وقال مجاهد في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقولهم : شاعر وساحر وكاهن . ( من مكان بعيد ) أي في جهة بعيدة ; لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء . قال : وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ; لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ; لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور . انتهى . وقيل : هو مستأنف ، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها ، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم : آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه بعيدا . والغيب : الشيء الغائب . وقرأ الزمخشري مجاهد ، وأبو حيوة ، ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون ، مبنيا للمفعول . قال مجاهد : ويرجمهم بما يكرهون من السماء . وقال أبو الفضل الرازي : يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون ، ومعناه : يجازون بسوء أعمالهم ، ولا علم لهم بما أتاه ، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت ، وإما في الآخرة . وقال : أي يأتيهم به ، يعني بالغيب ، شياطينهم ويلقنونهم إياهم . وقيل : يرمون في النار ; وقيل : هو مثل ; لأن من ينادى من مكان بعيد لا يسمع ، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون . الزمخشري
( وحيل بينهم ) ، قال الحوفي : الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله . انتهى . ولو كان على ما ذكر ، لكان مرفوعا بينهم ، كقراءة من قرأ : ( لقد تقطع بينكم ) في أحد المعنين ، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى ، فهو في موضع رفع ، وإن كان مبنيا . كما قال بعضهم في قوله : وإذ ما مثلهم ، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير ، وإن كان مفتوحا ; لأنه قول فاسد . يجوز أن تقول : مررت بغلامك ، وقام غلامك بالفتح ، وهذا لا يقوله أحد . والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقا ، بل له مواضع أحكمت في [ ص: 295 ] النحو ، وما يقول قائل ذلك فيقول الشاعر : وقد حيل بين العير والنزوان فإنه نصب بين ، وهي مضافة إلى معرب ، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه ، وحيل هو ، أي الحول ، ولكونه أضمر لم يكن مصدرا مؤكدا ، فجاز أن يقام مقام الفاعل ، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر : وقالت متى يبخل عليك ويعتلل بسوء وإن يكشف غرامك تدرب أي : ويعتلل هو ، أي الاعتلال . والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا ، قاله ; أو الأهل والمال والولد ، قاله ابن عباس ; أو بين الجيش وتخريب الكعبة ، أو بين المؤمنين ، أو بين النجاة من العذاب ، أو بين نعيم الدنيا ولذتها ، قاله السدي مجاهد أيضا . ( كما فعل بأشياعهم ) ، من كفرة الأمم ، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم . و ( من قبل ) يصح أن يكون متعلقا ( بأشياعهم ) ، أي من اتصف بصفته ممن قبل ، أي في الزمان الأول . ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ، ويصح أن يكون متعلقا بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا . وقال الضحاك : أشياعهم أصحاب الفيل ، يعني أشياع قريش ، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل . وأما التخصيص ، فلا دليل عليه . ( إنهم كانوا في شك مريب ) يعني في الدنيا ، ( ومريب ) اسم فاعل من أراب الرجل : أتى بريبة ودخل فيها ، وأربت الرجل : أوقعته في ريبة ، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز . قال : إلا أن بينهما فرقا ، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر . انتهى ، وفيه بعض تبيين . قيل : ويجوز أن يكون أردفه على الشك ، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب ، كما تقول : عجب عجيب ، وشتاء شات ، وليلة ليلاء . وقال الزمخشري ابن عطية : الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما .