[ ص: 311 ] لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها ، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال ( ألم تر ) ، وهذا الاستفهام تقريري ، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا . والخطاب للسامع ، و ( تر ) من رؤية القلب ; لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل ، وإن كان إنزال المطر مشاهدا بالعين ، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها . وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله ( فأخرجنا ) ، لما في ذلك من الفخامة ، إذ هو مسند للمعظم المتكلم . ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج ، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم ، وما دونه بضمير الغائب . والظاهر أن الألوان ، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك ، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ . وقرأ الجمهور ( مختلفا ألوانها ) ، على حد اختلف ألوانها . وقرأ : مختلفة ألوانها ، على حد اختلفت ألوانها ، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء ، وأن لا تلحق . وقرأ الجمهور ( زيد بن علي جدد ) ، بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جدة . قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشيء : قطعته . وقرأ : كقراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : جمع جدة ، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها . وعنه أيضا ، بضم الجيم والدال : جمع جديدة وجدد وجدائد ، كما يقال في الاسم : سفينة وسفن وسفائن . قال الزهري أبو ذؤيب :
جون السراة أم جدائد أربع
وعنه أيضا : بفتح الجيم والدال ، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى ، ولا صححه أثرا . وقال غيره : هو الطريق الواضح المبين ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقال أبو عبيدة : يقال جدد في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية . وقال صاحب اللوامح : جدد جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان . انتهى . وقال : مختلف ألوانها ; لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف ، فأبيض لا يشبه أبيض ، وأحمر لا يشبه أحمر ، وإن اشتركا في القدر المشترك ، لكنه مشكل . والظاهر عطف ( وغرابيب ) على ( حمر ) ، عطف ذي لون على ذي لون . وقال الزمخشري : معطوف على ( بيض ) أو على ( جدد ) ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد . وقال بعد ذلك : ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ( ومن الجبال جدد ) ، بمعنى : ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى تؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال ( ثمرات مختلفا ألوانها ) . ( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ) يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرأ ابن السميقع : ألوانها . انتهى .
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب ، وهو الشديد السواد ، لم يذكر فيه مختلف ألوانه ; لأنه من حيث جعله شديد السواد ، وهو المبالغ في غاية السواد ، لم يكن له ألوان ، بل هذا لون واحد ، بخلاف البيض والحمر ، فإنها مختلفة . والظاهر أن قوله ( بيض وحمر ) ليسا مجموعين بجدة واحدة ، بل المعنى : جدد بيض ، وجدد حمر ، وجدد غرابيب . ويقال : أسود حلكوك ، وأسود غربيب ، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعا . فقال ابن عطية : قدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا . وقال : الغربيب تأكيد للأسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد ، كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ، وما أشبه ذلك ; ووجهه أن يظهر المؤكد قبله ، فيكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر ، كقول الزمخشري النابغة :
والمؤمن العائذات الطير
وإنما يفعل لزيادة التوكيد ، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعا . انتهى . وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد . ومن النحاة من منع ذلك ، وهو اختيار ابن مالك . وقيل : هو على التقديم والتأخير ، [ ص: 312 ] أي سود غرابيب . وقيل : سود بدل من ( غرابيب ) ، وهذا أحسن ، ويحسنه كون ( غرابيب ) لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا ، ومنه ما جاء في الحديث : " أن الله يبغض الشيخ الغربيب " ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقال الشاعر :
العين طامحة واليد سابحة والرجل لائحة والوجه غربيب
ومن تعاجيب خلق الله غالية البعض منها ملاحي وغربيب
وقرأ الجمهور ( والدواب ) ، مشدد الباء ; والزهري : بتخفيفها ، كراهية التضعيف ، إذ فيه التقاء الساكنين . كما همز بعضهم ( ولا الضألين ) ، فرارا من التقاء الساكنين ، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين . ومختلفة ، صفة لمحذوف ، أي خلق مختلف ألوانه كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال ; فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله ، والوقف عليه حسن . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب ، كأنه قال : كما جاءت القدرة في هذا كله .
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أي المخلصون لهذه العبر ، الناظرون فيها . انتهى . وهذا الاحتمال لا يصح ; لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها ، ولو خرج مخرج السبب ، لكان التركيب : كذلك يخشى الله من عباده ، أي لذلك الاعتبار ، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشي . ولكن التركيب جاء بإنما ، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها ، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا ، ومن كان علمه به أقل كان آمن ، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية . وقيل : نزلت في ، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه . ومن ادعى أن إنما للحصر قال : المعنى ما يخشى الله إلا العلماء ، فغيرهم لا يخشاه ، وهو قول أبي بكر الصديق . وقال الزمخشري ابن عطية : وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضا دونه ، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه . انتهى .
وجاءت هذه الجملة بعد قوله ( ألم تر ) ، إذ ظاهره خطاب للرسول ، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، فكأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته . وقرأ الجمهور : بنصب الجلالة ورفع العلماء . وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك ، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم ; لأن من خشي وهاب أجل وعظم من خشيه وهاب ، ولعل ذلك لا يصح عنهما . وقد رأينا كتبا في الشواذ ، ولم يذكروا هذه القراءة ، وإنما ذكرها ، وذكرها عن الزمخشري أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل . ( إن الله عزيز غفور ) تعليل للخشية ، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم ، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم .
( إن الذين يتلون ) ظاهره يقرأون ، ( كتاب الله ) أي يداومون تلاوته . وقال : هذه آية القراء ، ويتبعون كتاب الله ، فيعملون بما فيه ; وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير الكلبي : يأخذون بما فيه . وقال : هم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم وقال السدي عطاء : هم المؤمنون " . ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية ، وهي عمل القلب ، ذكر أنهم يتلون كتاب الله ، وهو عمل اللسان . ( وأقاموا الصلاة ) وهو عمل الجوارح ، وينفقون : وهو العمل المالي . وإقامة الصلاة والإنفاق : يقصدون بذلك وجه الله ، لا للرياء والسمعة . ( تجارة لن تبور ) لن تكسد ، ولا يتعذر الربح فيها ، بل ينفق عند الله . ( ليوفيهم ) متعلق بيرجون ، [ ص: 313 ] أو بلن تبور ، أو بمضمر تقديره : فعلوا ذلك ، أقوال . وقال الزمخشري : وإن شئت فقلت : يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلوا جميع ذلك لهذا الغرض . وخبر إن قوله ( إنه غفور شكور ) لأعمالهم ، والشكر مجاز عن الإثابة . انتهى . وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم ، وزيادته من فضله . قال أبو وائل : بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم . وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث : " بتضعيف حسناتهم " . وقيل : بالنظر إلى وجهه . والكتاب : هو القرآن ، ومن : للتبيين أو الجنس أو التبعيض ، تخريجات . ( للزمخشري مصدقا ) حال مؤكدة ( لما بين يديه ) من الكتب الإلهية : التوراة والإنجيل والزبور وغيره ، وفيه إشارة إلى كونه وحيا ; لأنه عليه السلام لم يكن قارئا كاتبا ، وأتى ببيان ما في كتب الله ، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى . ( إن الله بعباده لخبير بصير ) عالم بدقائق الأشياء وبواطنها ، بصير بما ظهر منها ، وحيث أهلك لوحيه ، واختارك برسالته وكتابه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
( ثم أورثنا الكتاب ) ، وثم قيل : بمعنى الواو ، وقيل : للمهلة ، إما في الزمان ، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه . والكتاب فيه قولان ، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية ، والكتاب على هذا اسم جنس . والمصطفون ، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن . وقال : هم هذه الأمة ، أورثت أمة ابن عباس محمد - صلى الله عليه وسلم - كل كتاب أنزله الله . وقال : أورثهم الإيمان ، فالكتب تأمر باتباع القرآن ، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها ، يدل عليه ( ابن جرير والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ) ، ثم أتبعه بقوله ( ثم أورثنا الكتاب ) ، فعلمنا أنهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته . فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ، ذلك النبي وأتباعه . والقول الثاني : إن الكتاب هو القرآن ، والمصطفون أمة الرسول ، ومعنى أورثنا ، قال مجاهد : أعطينا ; لأن الميراث عطاء . ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة ، قال : فقيل هم المذكرون في الواقعة . فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة ، وهو قول يروى معناه عن مكي عكرمة والحسن وقتادة ، قالوا : الضمير في منهم عائد على العباد . فالظالم لنفسه الكافر والمنافق ، والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق ، وقالوا : هو نظير ما في الواقعة . والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول ، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذبا ضالا لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله ، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين . قال : سابقنا أهل جهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جمعة ولا جماعة . وقال عثمان بن عفان معاذ : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والسابق : من مات تائبا عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك . وقيل : الظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، والسابق : المتقي على الإطلاق . وقال الحسن : الظالم : من خفت حسناته ، والمقتصد : من استوت ، والسابق : من رجحت . وقال : قسمهم إلى ظالم مجرم ، وهو المرجئ لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ; وسابق من السابقين . انتهى . وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولا في هؤلاء الأصناف الثلاثة . وقرأ الزمخشري أبو عمران الحوفي ، وعمر بن أبي شجاع ، ويعقوب في رواية ، والقراءة عن أبي عمرو : سباق ; والجمهور . سابق ، قيل : وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله . وقال : للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل . انتهى . ( الزمخشري بإذن الله ) بتيسيره وتمكينه ، أي أن [ ص: 314 ] سبقه ليس من جهة ذاته ، بل ذلك منه تعالى . والظاهر أن الإشارة بذلك إلى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة .
و ( جنات ) على هذا مبتدأ ، و ( يدخلونها ) الخبر . ( وجنات ) قراءة الجمهور جمعا بالرفع ، ويكون ذلك إخبارا بمقدار أولئك المصطفين . وقال ، وابن عطية ( الزمخشري جنات ) بدل من ( الفضل ) . قال : فإن قلت : فكيف جعلت ( الزمخشري جنات عدن ) بدلا من ( الفضل الكبير ) الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك ؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن . انتهى . ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري . وهارون عن عاصم ( جنات ) منصوبا على الاشتغال ، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها . وقرأ رزين ، وحبيش ، : جنة على الإفراد . وقرأ والزهري أبو عمرو : يدخلونها مبنيا للمفعول ، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنيا للفاعل . والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائد على الأصناف الثلاثة ، وهو قول ، عبد الله بن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وأبي الدرداء ، وعقبة بن عامر وأبي سعيد ، وعائشة ، ، ومحمد بن الحنفية ، وجعفر الصادق ، وأبي إسحاق السبيعي . وقرأ وكعب الأحبار عمر هذه الآية ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " . ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة ; لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق . وقال : هو عائد على السابق فقط ، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم ، فذكر ثوابهم . والسكوت عن الآخرين فيه ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وليهلك الظالم لنفسه حذرا ، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغتر بما رواه الزمخشري عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " ، فإن شرط ذلك صحة التوبة ، عسى الله أن يتوب عليهم . وقوله : إما يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة . وقرأ الجمهور ( يحلون ) بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام ، مبنيا للمفعول . وقرئ : بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ، من حليت المرأة فهي حال ، إذا لبست الحلي . ويقال : جيد حال ، إذا كان فيه الحلي ، وتقدم في سورة الحج الكلام على ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) . وقرأ الجمهور ( الحزن ) بفتحتين ; وقرئ : بضم الحاء وسكون الزاي ، ذكره جناح بن حبيش ، والحزن يعم جميع الأحزان ، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين ، فقال : حزن : أهوال يوم القيامة ، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن . وقال أبو الدرداء : معيشة الدنيا الخير ونحوه . وقال سمرة بن جندب قتادة : حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم . وقال مقاتل : حزن الانتقال ، يقولونها إذا استقروا فيها . وقال الكلبي : خوف الشيطان . وقال ابن زيد : حزن : تظالم الآخرة ، والوقوف عن قبول الطاعات وردها ، وطول المكث على الصراط . وقال : حزن : زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا . ( القاسم بن محمد إن ربنا لغفور شكور ) ، لغفور : فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة . ( شكور ) فيه إشارة إلى السابق ، وأنه كثير الحسنات . و ( المقامة ) : هي الإقامة أي الجنة ؛ لأنها دار إقامة دائما لا يرحل عنها . ( من فضله ) من عطائه .
( لا يمسنا فيها نصب ) أي تعب بدن ، ( ولا يمسنا فيها لغوب ) أي تعب نفس ، وهو لازم عن تعب البدن . وقال قتادة : اللغوب : الوضع . وقال : النصب : التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له ، وأما اللغوب : فما يلحقه من الفتور بسبب [ ص: 315 ] النصب . فالنصب : نفس المشقة والكلفة ، واللغوب : نتيجته ، وما يحدث منه من الكلال والفترة . انتهى . فإن قلت : إذا انتفى السبب انتفى مسببه ، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه ؟ وأنت تقول : ما شبعت ولا أكلت ، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت ; لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع ، ولا ينعكس ، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة ؟ فالجواب : أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا ، فإن أماكنها على قسمين : موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري ، وموضع يمس فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار ، فقال ( الزمخشري لا يمسنا فيها نصب ) ; لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا ; ( ولا يمسنا فيها لغوب ) أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء . وقرأ الجمهور : لغوب ، بضم اللام ، وعلي بن أبي طالب والسلمي : بفتحها . قال الفراء : هو ما يلغب به ، كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف ، كأنه لغوب ، كقولهم : موت مائت . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدرا كالقبول ، وإن شئت جعلته صفة لمضمر ، أي أمر لغوب ، واللغوب أيضا في غير هذا للأحمق . قال أعرابي إن فلانا لغوب جاءت كتابي فاحتقرها ، أي أحمق ، فقيل له : لم أنثته ؟ فقال : أليس صحيفة ؟