الضمير في ( وأقسموا ) لقريش . ولما بين إنكارهم للتوحيد ، بين تكذيبهم للرسل . قيل : وكانوا يلعنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم ، وقالوا : لئن أتانا رسول ليكونن أهدى من إحدى الأمم . فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبوه . ( لئن جاءهم ) حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم ، إذ لو كان اللفظ ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم ، أي من واحدة مهتدية من الأمم ، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها ، كما قالوا : هو أحد الأحدين ، وهو أحد الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له ، وقال الشاعر :
حتى استشاروا في أحد الأحد شاهد يراد سلاح معد
( فلما جاءهم نذير ) ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله ، وهو الظاهر . وقال ابن عباس مقاتل : هو انشقاق القمر . ( ما زادهم ) أي ما زادهم هو أو مجيئه . ( إلا نفورا ) بعدا من الحق وهربا منه . وإسناد الزيادة إليه مجاز ; لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورا ، كقوله ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ، وصاروا أضل مما كانوا . وجواب ( لما ) ( ما زادهم ) ، وفيه دليل واضح على حرفية ( لما ) لا ظرفيتها ، إذ لو كانت ظرفا ، لم يجز أن يتقدم على عاملها المنفي بما ، وقد ذكرنا ذلك في قوله ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم ) ، وفي قوله ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم ) . والظاهر أن ( استكبارا ) مفعول من أجله ، أي سبب النفور وهو الاستكبار ، ( ومكر السيئ ) معطوف على ( استكبارا ) ، فهو مفعول من أجله أيضا ، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار ; و ( المكر السيئ ) ، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكيد له . وقال قتادة : المكر السيئ هو الشرك . وقيل ( استكبارا ) بدل من ( نفورا ) ، وقاله الأخفش . وقيل : حال ، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ومكر السيئ من إضافة الموصوف إلى صفته ، ولذلك جاء على الأصل ( ولا يحيق المكر السيئ ) . وقيل : يجوز أن يكون ( ومكر السيئ ) معطوفا على ( نفورا ) . وقرأ الجمهور : ومكر السيئ ، بكسر الهمزة ; والأعمش ، وحمزة : بإسكانها ، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإما إسكانا لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل ، كقوله : لنا إبلان . وزعم أن هذه القراءة لحن . قال الزجاج أبو جعفر : وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ; لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف على من أدى عنه ، والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقال الأعمش أيضا : قراءة الزجاج حمزة ومكر السيئ موقوفا عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز ، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار . وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد ، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار ، والوصل بنية [ ص: 320 ] الوقف ، قال : فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل ، لم يسغ أن يقال لحن . وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال لحن . وقال الزمخشري : لعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدأ ( ولا يحيق ) . وروي عن ابن كثير : ومكر السئي ، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة ، وهو مقلوب السيئ المخفف من السيئ ، كما قال الشاعر :
ولا يجزون من حسن بسيئ ولا يجزون من غلظ بلين
وقرأ : ومكرا سيئا ، عطف نكرة على نكرة ; ( ابن مسعود ولا يحيق ) أي يحيط ويحل ، ولا يستعمل إلا في المكروه . وقرئ : يحيق بالضم ، أي بضم الياء ; المكر السيئ : بالنصب ، ولا يحيق الله إلا بأهله ، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله . وقال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيرا نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك . فالجواب من وجوه : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر . وثانيها : أنه عام ، وهو الأصح ، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال : " لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فإنه تعالى يقول ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلا فلا يزد نقصا " . وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك . انتهى .
وقال كعب في التوراة " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " ، فقال له لابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله ، ( ابن عباس ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) . انتهى .
وفي أمثال العرب " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " . و ( سنة الأولين ) إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم . و ( سنة الأولين ) أضاف فيه المصدر . وفي ( لسنة الله ) إضافة إلى الفاعل ، فأضيفت أولا إليهم لأنها سنة بهم ، وثانيا إليه لأنه هو الذي سنها . وبين تعالى الانتقام من مكذب الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها ، وإن كان ذلك كائن لا محالة . واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم ، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم وديارهم ، كديار ثمود ونحوها ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم . وهناك ( كانوا أشد منهم قوة ) استئناف إخبار عن ما كانوا عليه ، وهنا ( وكانوا ) أي وقد كانوا ، فالجملة حال ، فهما مقصدان . ( وما كان الله ليعجزه ) أي ليفوته ويسبقه ، ( من شيء ) أي شيء ، و ( من ) لاستغراق الأشياء ( إنه كان عليما قديرا ) فبعلمه يعلم جميع الأشياء ، فلا يغيب عن علمه شيء ، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء .
ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ) أي من الشرك وتكذيب الرسل ، وهو المعنى في الآية التي في النحل ، وهو قوله : ( بظلمهم ) ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في النحل ، وهناك ( عليها ) ، وهنا على ( ظهرها ) ، والضمير عائد على الأرض ، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام ، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به ، وهو قوله : ( في السماوات ولا في الأرض ) . ولما كانت حاملة لمن عليها ، استعير لها الظهر ، كالدابة الحاملة للأثقال ، ولأنه أيضا هو الظاهر بخلاف باطنها . فإنه ( كان بعباده بصيرا ) توعد للمكذبين ، أي فيجازيهم بأعمالهم .