[ ص: 331 ] أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل ، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم ، إذ هم المضروب لهم المثل . وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جندا من السماء ، كالحجارة والريح وغير ذلك ، وكانوا أهون عليه . وقوله ( من بعده ) ، يدل على ابتداء الغاية ، أي لم يرسل إليهم رسولا ، ولا عاتبهم بعد قتله ، بل عاجلهم بالهلاك . والظاهر أن ما في قوله ( وما كنا منزلين ) نافية ، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها ، أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جندا من السماء ; لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض ، كما قال ( فكلا أخذنا بذنبه ) الآية . وقالت فرقة : ( ما ) اسم معطوف على جند . قال ابن عطية : أي من جند ومن [ ص: 332 ] الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم . انتهى ، وهو تقدير لا يصح ; لأن من في من جند زائدة . ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين : أحدهما : أن يكون قبلها نفي ، أو نهي ، أو استفهام . والثاني : أن يكون بعدها نكرة ، وإن كان كذلك ، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة . لا يجوز : ما ضربت من رجل ولا زيد ، وإنه لا يجوز : ولا من زيد ، وهو قدر المعطوف بالذي ، وهو معرفة ، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون ما زائدة ، أي وقد كنا منزلين ، وقوله ليس بشيء .
وقرأ ( إن كانت إلا صيحة ) ، بنصب الصيحة ، وكان ناقصة واسمها مضمر ، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ومعاذ بن الحارث القارئ : صيحة بالرفع في الموضعين على أن ( كانت ) تامة ، أي ما حدثت أو وقعت إلا صيحة ، وكان الأصل أن لا يلحق التاء ; لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بعد إلا من المؤنث ، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول : ما قام إلا هند ، ولا يجوز : ما قامت إلا هند ، عند أصحابنا إلا في الشعر ، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة . ومثله قراءة الحسن ، ، وأبي رجاء ، ومالك بن دينار والجحدري ، وقتادة ، وأبي حيوة ، ، وابن أبي عبلة وأبي بحرية : لا ترى إلا مساكنهم بالتاء ، والقراءة المشهورة بالياء ، وقول : ذي الرمة
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
وقول الآخر :
ما برئت من ريبة وذم في حربنا إلا بنات العم
فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث . ( فإذا هم خامدون ) أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة ، لم يتأخر . وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم ، كنار خمدت بعد توقدها . ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك ، هذا تقدير نداء ، مثل هذا عند ، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور . وقرأ سيبويه أبي ، ، وابن عباس وعلي بن الحسين ، والضحاك ، ومجاهد ، والحسن : يا حسرة العباد ، على الإضافة ، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم ، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم ، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب ; وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم .
وقرأ أبو الزناد ، ، وعبد الله بن ذكوان المدني وابن هرمز ، وابن جندب ( يا حسره على العباد ) ، بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف ، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر ، لما في الهاء من التأهه كالتأوه ، ثم وصلوا على تلك الحال ، قاله صاحب اللوامح . وقال ابن خالويه : يا حسرة على العباد بغير تنوين ، قاله ، انتهى ، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء ، كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه . وقد قرئ : يا حسرتا ، بالألف ، أي يا حسرتي ، ويكون من الله على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ، وفرط إنكاره وتعجيبه منه . والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل ، تحسرت عليهم الملائكة ، قاله ابن عباس الضحاك . وقال الضحاك أيضا : المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم . وقال أبو العالية : المراد بالعباد الثلاثة ، وكان هذا التحسر هو من الكفار ، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم . قال ابن عطية : وقوله ( ما يأتيهم ) الآية يدفع هذا التأويل . انتهى . قال : الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرا . وقيل : المنادى محذوف ، وانتصب ( حسرة ) على المصدر ، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة . وقيل ( الزجاج يا حسرة على العباد ) من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم لقتله . وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ، قالوا : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا . انتهى . فالألف [ ص: 333 ] واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم . والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أو الرسل الثلاثة أو ذلك الرجل ، أقوال .
( ما يأتيهم ) إلى آخر الآية : تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله ( ألم يروا كم أهلكنا ) . قال ابن عطية : وكم هنا خبرية ، وأنهم بدل منها ، والرؤية رؤية البصر . انتهى . فهذا لا يصح ; لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا ، ولا يسوغ فيها إلا ذلك . وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون أنهم بدل منها ; لأن البدل على نية تكرار العامل ، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح . ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاما ؟ لكن ابن عطية توهم أن ( يروا ) مفعوله كم ، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل ; لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون ؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية . وقال : هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ; لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي . وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ; لأنه ليس بدلا صناعيا ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو . وقال الزجاج أبو البقاء : أنهم إليهم . انتهى ، وليس بشيء ; لأن كم ليس بمعمول ليروا . ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال ، وقولهم في الجملتين تجوز ; لأن أنهم وما بعده ليس بجملة ، ولم يبين كيفية هذا العمل . وقال ( الزمخشري ألم يروا ) ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في كم ; لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ; لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا أن زيدا لمنطلق وإن لم تعمل في لفظه . و ( أنهم إليهم لا يرجعون ) بدل من ( أهلكنا ) على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، كونهم غير راجعين إليهم ؟ انتهى . فجعل يروا بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في كم . وقوله : لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر ، وهذا ليس على إطلاقه ; لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسما مضافا جاز أن يعمل فيها ، نحو كم على كم جذع بيتك ؟ وأين كم رئيس صحبت ؟ وعلى كم فقير تصدقت ؟ أرجو الثواب ، وأين كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه ؟ وقوله : أو للخبر الخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغة الأخرى ، حكاها الأخفش ; يقولون فيها : ملكت كم غلام ; أي ملكت كثيرا من الغلمان . فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير ، كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها . وقوله : لأن أصلها الاستفهام ، ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها ، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر . وقوله : إلا أن معناها نافذ في الجملة ، يعني معنى يروا نافذ في الجملة ; لأنه جعلها معلقة ، وشرح يروا بيعلموا . وقوله : كما تقدم في قولك : ألم يروا أن زيدا لمنطلق فإن زيدا لمنطلق معمول من حيث المعنى ليروا ، ولو كان عاملا من حيث اللفظ لم تدخل اللام ، وكانت ( أن ) مفتوحة ، فأن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب . وقوله : و ( أنهم لا يرجعون ) إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلا ، لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة ، فيكون كم استفهاما ، وهو معمول لأهلكنا ، وأهلكنا لا يتسلط على ( أنهم إليهم لا يرجعون ) ، وتقدم لنا ذلك . وأما على المعنى ، فلا يصح أيضا ; لأنه قال تقديره ، أي على المعنى : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضا من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ; لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل ، وهذا لا يصح هنا . لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة [ ص: 334 ] إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه ، يصح أعجبني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد ، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) ، في سورة الأنعام . والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف ، ودل عليه المعنى ، وتقديره : قضينا أو حكمنا ( أنهم إليهم لا يرجعون ) . وقرأ ابن عباس والحسن : إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب ، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا . والضمير في أنهم عائد على معنى كم ، وهم القرون ، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا ، وهم قريش ; فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا . وقيل : الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا ، وفي إليهم عائد على المهلكين ، والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم . وقرأ عبد الله : ألم يروا من أهلكنا ، وأنهم على هذا بدل اشتمال ; وفي قولهم : أنهم لا يرجعون ، رد على القائلين بالرجعة . وقيل : إن قوما يزعمون أن لابن عباس عليا مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه .
وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر : بتثقيل لما ; وباقي السبعة : بتخفيفها . فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا ، وإن نافية ، أي ما كل ، أي كلهم إلا جميع لدينا محضرون أي محشورون ، قاله قتادة . وقال ابن سلام : معذبون ; وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة ، وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة ، فلا يلتفت إلى زعم أنه لا يعرف ذلك . وقال الكسائي أبو عبد الله الرازي : في كون لما بمعنى إلا معنى مناسبا ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعا وهما لم وما ، فتأكد النفي ; وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا ، فاستعمل أحدهما مكان الآخر . انتهى ، وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا ، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ، فـ ( إن ) عندهم نافية ، واللام بمعنى ( إلا ) ، و ( ما ) زائدة ، و ( لما ) المشددة بمعنى ( إلا ) ثابت حرف نفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك ، وما تركب منه وزاد تحريف أرك منه ، وكل بمعنى الإحاطة ، وجميع فعيل بمعنى مفعول ، ويدل على الاجتماع ، وجميع محضرون هنا على المعنى ، كما أفرد ( منتصر ) على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل .
وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبيينا أنه تعالى ليس من أهلكه يترك ، بل بعد إهلاكهم جمع وحساب وثواب وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) وما بعده من الآيات . وبدأ بالأرض ; لأنها مستقرهم ، حركة وسكونا ، حياة وموتا . وموت الأرض جدبها ، وإحياؤها بالغيث . والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر . و ( أحييناها ) استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ . وقيل : أحييناها في موضع الحال ، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام ، ويكون آية خبرا مقدما ، والأرض الميتة مبتدأ ; فالنية بـ ( آية ) التأخير ، والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك : قائم زيد مسرعا ، أي زيد قائم مسرعا ، ولهم متعلق بـ ( آية ) ، لا صفة . وقال : ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ; لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض ، وليل بإحيائهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه : الزمخشري
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى . وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، [ ص: 335 ] ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك . وأما يسبني فحال ، أي ساب لي ، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه . وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون ، لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب ، وربما تاقت النفس إلى النقلة ، فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه الثمر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا أين يقع المطر . وقرأ جناح بن حبيش ( وفجرنا ) بالتخفيف ، والجمهور : بالتشديد . ( ومن ثمره ) بفتحتين ; وطلحة ، وابن وثاب ، وحمزة ، : بضمتين ; والكسائي : بضم الثاء وسكون الميم ; والضمير في ثمره عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف ، أي من ماء العيون ; وقيل : على النخيل ، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره ، أو يراد من ثمر المذكور ، وهو الجنات ، كما قال الشاعر : والأعمش
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : كيف قلت بعيون ، كأنه والذي تقدم خطوط ؟ فقال أرت : كان ذاك . وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور ، وعنى بثمره فوائده ، كما تقول : ثمرة التجارة الربح . وقال : وأصله من ثمرنا ، كما قال ( وجعلنا ) ، ( وفجرنا ) ، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه ، وبان أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم . ويجوز أن تكون ما نافية ، على أن الثمر خلق الله ، ولم تعمله أيدي الناس ، ولا يقدرون على خلقه . وقرأ الجمهور ( الزمخشري وما عملته ) بالضمير ، فإن كانت ( ما ) موصولة فالضمير عائد عليها ، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر . وقرأ طلحة ، وعيسى ، وحمزة ، ، والكسائي وأبو بكر : بغير ضمير ، مفعول ( عملت ) على التقديرين محذوف ، وجوز في هذه القراءة أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي وعمل أيديهم ، وهو مصدر أريد به المعمول ، فيعود إلى معنى الموصول .
ولما عدد تعالى هذه النعم ، حض على الشكر فقال ; ( أفلا يشكرون ) ، ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الأزواج ، وهي الأنواع من جميع الأشياء ، ( مما تنبت الأرض ) من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك . وكل صنف زوج مختلف لونا وطعما وشكلا وصغرا وكبرا ، ( ومن أنفسهم ) ذكورا وإناثا ، ( ومما لا يعلمون ) أي وأنواعا مما لا يعلمون ، أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته ، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا . وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه وعظم قدرته .
ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي ، ذكر الاستدلال بالليل والنهار ، وهو الزمان الكلي ; وبينهما مناسبة ; لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ; لأن كل عرض فهو في زمان ، ومثله مذكور في قوله ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ) ، ثم قال بعده ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ) الآية . وبدأ هناك بالزمان ; لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) الآية ، ثم الحشر بقوله ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ) ، وهذا المقصود الحشر أولا لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض ) . انتهى ، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه تلخيص .
و ( نسلخ ) معناه نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل . و ( مظلمون ) داخلون في الظلام ، [ ص: 336 ] كما تقول : أعتمنا وأسحرنا : دخلنا في العتمة وفي السحر . واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارئ عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها . كما جاء في حديث أبي ذر : وقال " ويقال لها اطلعي من حيث طلعت ، فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " . : إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه ، استوت تحت العرش إلى أن تطلع . وقال ابن عباس الحسن : للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعا ، تنزل كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزل إلى الحول ، وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ; لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ; لأنهما نهايتا مطالعها ; فإذا استقر وصولها كرت راجعة ، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين . ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، أو وقوفها عند الزوال كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ . وقال : بمستقر لها : لحدها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة . شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو كمنتهى لها من المشارق والمغارب ; لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع ، فلذلك حدها ومستقرها ; لأنها لا تعدوه أو لا يعد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة . الزمخشري
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل أو السنة أو يوم القيامة ، وفي المكان غاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء ، وتجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى ستة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات ; وهذا هو ما تقدم في الارتفاع . فإن اختلاف المشارق سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد ، أو الدائرة التي عليها حركتها ، حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس . ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها ، فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك ، والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها . انتهى . وقرئ : إلى مستقرها . وقرأ عبد الله ، ، وابن عباس وعكرمة ، وعطاء بن رباح ، ، وزين العابدين ، وابنه والباقر الصادق ، : لا مستقر لها ، نفيا مبنيا على الفتح ، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي هي تجري دائما فيها ، لا تستقر ; إلا وابن أبي عبدة ، فإنه قرأ برفع ( مستقر ) وتنوينه على إعمالها إعمال ليس ، نحو قول الشاعر : ابن أبي عبلة
تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا
الإشارة بذلك إلى جري الشمس : أي ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق . ( تقدير العزيز ) الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علما بكل معلوم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، والحسن : بخلاف عنه . ( والقمر ) بالرفع على الابتداء ; وباقي السبعة : بالنصب على الاشتغال . و ( قدرناه ) على حذف مضاف ، أي قدرنا سيره ، و ( منازل ) ظرف ، أي منازله ; وقيل : قدرنا نوره في منازل ، فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية . وقيل : قدرناه : جعلنا أنه أجري جريه عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة ، فإن جرم القمر مظلم ، ينزل فيه النور لقبوله عكس ضياء الشمس ، مثل المرآة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع .
وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها ، لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستو لا بتفاوت ، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير [ ص: 337 ] ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة ، وهي : الشرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، العفر ، الزبانى ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له الرشاء ، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس واصفر ، فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة إلا وجها . وقرأ سليمان التيمي : كالعرجون ، بكسر العين وفتح الجيم ; والجمهور : بضمها ، وهما لغتان كالبريون . و ( القديم ) ما مر عليه زمان طويل . وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر . انتهى . والقدم أمر نسبي ، وقد يطلق على ما ليس له سنة ولا سنتان ، فلا يقال العالم قديم ، وإنما تعتبر العادة في ذلك .
( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه ، أي لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو ، قال : إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان ، وضرب له حدا معلوما ، ودبر أمرهما على التعاقب . فلا ينبغي للشمس أن لا يستهل لها ، ولا يصح ، ولا يستقيم ، لوقوع التدبير على العاقبة . وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان ، على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره . ولا يسبق الليل النهار ، يعني آية الليل آية النهار ، وهما النيران . ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها . انتهى . وقال الزمخشري ، ابن عباس والضحاك : إذا طلعت ، لم يكن للقمر ضوء ; وإذا طلع ، لم يكن للشمس ضوء . وقال مجاهد : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر . وقال قتادة : لكل أحد حد لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا . وقال أيضا : إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، في منازل لا يشتركان فيها . وقال ابن عباس الحسن : لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، أي لا تبقى الشمس حتى يطلع الفجر ، ولكن إذا غربت طلع . وقال : لا تدركه ليلة البدر خاصة ; لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها . وقيل : لا يمكنها أن تدركه في سرعته ; لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد ، وفلك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس . فإذا كان طريق الشمس أبعد ، قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي من البروج الاثني عشر ، في زمان تقطع الشمس فيه برجا واحدا من فلكه . وقال يحيى بن سلام النحاس : ما قيل فيه ، وأبينه أن مسير القمر مسير سريع ، والشمس لا تدركه في السير . انتهى ، وهو ملخص القول الذي قبله ( ولا الليل سابق النهار ) ، لا يعارض قوله ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) ; لأن ظاهر قوله ( يطلبه حثيثا ) ، أن النهار سابق أيضا ، فيوافق الظاهر . وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله ( يطلبه حثيثا ) أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقه . وفهم من قوله ( ولا الليل سابق النهار ) أن الليل مسبوق لا سابق ، فأورده سؤالا . وقال : كيف يكون الليل سابقا مسبوقا ؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة . والمراد من الليل هناك نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه . انتهى . وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائدا على النهار ، وضمير المفعول عائدا على الليل . والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ; لأنه كان قبل دخول [ ص: 338 ] همزة النقل ( يغشي الليل النهار ) ، وضمير المفعول عائد على النهار ; لأنه المفعول قبل النقل وبعده . وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي : سابق بغير تنوين ، النهار بالنصب . قال : سمعته يقرأ فقلت : ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار ، فحذفت لأنه أخف . انتهى ، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين . وتقدم شرح ( المبرد وكل في فلك يسبحون ) في سورة الأنبياء .
والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم . وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء ، قاله أبو عثمان . وقال ابن عطية : هذا تخليط ، ولا يعرف هذا في اللغة . انتهى . وتقدم الكلام في الذرية في آل عمران . والظاهر أن الضمير في لهم وفي ذرياتهم عائد على شيء واحد ، فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء ، وهم آباؤهم الأقدمون ، في سفينة نوح عليه السلام ، قاله وجماعة . ومن مثله : للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة أو أريد بقوله ( ذرياتهم ) حذف مضاف ، أي ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء . فالفلك اسم جنس من عليهم بذلك ، وكون الفلك مرادا به الجنس ، قاله ابن عباس أيضا ابن عباس ومجاهد والسدي ، ومن مثله : الإبل وسائر ما يركب . وقيل : الضميران مختلفان ، أي ذرية القرون الماضية ، قاله علي بن سليمان ، وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية . وقيل : الذرية : النطف ، ( والفلك المشحون ) بطون النساء ، ذكره الماوردي ، ونسب إلى ، وهذا لا يصح ; لأنه من نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعه . ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله ( علي بن أبي طالب وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط ، هذا إذا كان الفلك جنسا . وأما إن أريد به سفينة نوح ، فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم . ويبعد قول من قال : الذرية في الفلك قوم نوح في سفينته ، والمثل : الأجل وما يركب ; لأنه يدفعه قوله ( وإن نشأ نغرقهم ) . وقرأ نافع ، وابن عامر ، ، والأعمش ، وأبان بن عثمان : ذرياتهم بالجمع ; وكسر زيد وأبان الذال ; وباقي السبعة ، وزيد بن علي وطلحة ، وعيسى : بالإفراد . وقال : ذريتهم : أولادهم ومن يهمهم حمله . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ; لأنهن مزارعها . وفي الحديث : الزمخشري " أنه نهى عن قتل الذراري " ، يعني النساء .
( من مثله ) من مثل الفلك ، ( ما يركبون ) من الإبل ، وهي سفائن البر . وقيل ( الفلك المشحون ) سفينة نوح . ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم . وإنما ذكر ذرياتهم دونهم ; لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح . و ( من مثله ) من مثل ذلك الفلك ، ( ما يركبون ) من السفن . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما خص الذريات بالذكر ; لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم ، أي لم يكن الحمل حملا لهم ، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين . وقال أيضا : الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله ( ياحسرة على العباد ) ثم قال بعد ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) ، ( وآية لهم الليل ) ، ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين ، فهو كقوله ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ، إنما يريد : لا يقتل بعضكم بعضا ، فذلك هذا . ( وآية لهم ) أي آية كل بعض منهم ، ( أنا حملنا ) ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم . انتهى . والظاهر في قوله ( وخلقنا ) أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون من للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقا ، لكن الأكثر ما ذكرنا . وإذا أريد به السفن ، تكون من للتبعيض ، ولهم الظاهر عوده على ما عاد عليه ( وآية لهم ) ; لأنه المحدث عنهم ، وجوز أن يعود على الذرية ; والظاهر أن الضمير في مثله عائد على [ ص: 339 ] الفلك . وقيل : يعود على معلوم غير مذكور وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ) ، كما قالوا : في قوله ( من ثمره ) ، أي من ثمر ما ذكرنا . وقرأ الحسن : ( نغرقهم ) مشددا ; والجمهور : مخففا ; والصريخ : فعيل بمعنى صارخ : أي مستغيث ، وبمعنى مصرخ : أي مغيث ، وهذا معناه هنا ، أي فلا مغيث لهم ولا معين . وقال ( الزمخشري فلا صريخ لهم ) أي فلا إغاثة لهم . انتهى . كأنه جعله مصدرا من أفعل ، ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى صراخ . والظاهر أن قوله ( فلا صريخ لهم ) أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم ، ( ولا هم ينقذون ) أي ينجون من الموت بالغرق . نفى أولا الصريخ ، وهو خاص ; ثم نفى ثانيا إنقاذهم بصريخ أو غيره . وقال ابن عطية : وقوله ( فلا صريخ لهم ) استئناف إخبار عن المسافرين في البحر ، ناجين كانوا أو مغرقين ، فهم في هذه الحال لا نجاة لهم إلا برحمة الله . وليس قوله ( فلا صريخ لهم ) مربوطا بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به ، والأول أحسن فتأمله . انتهى ، وليس بحسن ولا أحسن . والفاء في ( فلا صريخ لهم ) تعلق الجملة بما قبلها تعليقا واضحا ، وترتبط به ربطا لائحا . والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفي بقوله ( فلا صريخ لهم ) ، وما يرفعه بعد وقوعه ، فنفي بقوله ( ولا هم ينقذون ) . وانتصب ( رحمة ) على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله ، أي لرحمة منا . وقال الكسائي ، ( والزجاج إلى حين ) أي إلى حين الموت ، قاله قتادة . وقال : إما لرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين : أي إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق . انتهى . وإنما قال : لا بد لهم من موت الغرق ; لأنه تعالى قال ( الزمخشري وإن نشأ ) أي إغراقهم ، ( نغرقهم ) فمن شاء إغراقه لا بد أن يموت بالغرق . والظاهر أن ( منا ومتاعا إلى حين ) يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام ، بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته . وقيل : فيه تقسيم ، إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن فينقذه الله رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن يمنعه زمانا ويزداد إثما .