[ ص: 342 ] لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء . والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب . وقيل : هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم ، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس ، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره ; والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال . وقال قريبا منه مجاهد ، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار ، قاله ; وعنه أيضا : سماع الأوتار . وعن ابن عباس الحسن : شغلوا عن ما فيه أهل النار . وعن الكلبي : عن أهاليهم من أهل النار ، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا . وعن ابن كيسان : الشغل : التزاور . وقيل : ضيافة الله ، وأفرد الشغل ملحوظا فيه النعيم ، وهو واحد من حيث هو نعيم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : بضم الشين وسكون الغين ; وباقي السبعة بضمها ; ومجاهد ، وأبو السمال ، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه : بفتحتين ; ويزيد النحوي ، وابن هبيرة ، فيما نقل أبو الفضل الرازي : بفتح الشين وإسكان الغين . وقرأ الجمهور ( فاكهون ) ، بالألف ; والحسن ، وأبو جعفر ، وقتادة ، وأبو حيوة ، ومجاهد ، وشيبة ، وأبو رجاء ، ويحيى بن صبيح ، ونافع في رواية : بغير ألف ; وطلحة ، : فاكهين ، بالألف وبالياء نصبا على الحال ، وفي شغل هو الخبر . فبالألف أصحاب فاكهة ، كما يقال لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وبغير ألف معناه : فرحون طربون ، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة ، وقرئ : فكهين ، بغير ألف وبالياء . وقرئ : فكهون ، بضم الكاف . يقال : رجل فكه وفكه ، نحو : يدس ويدس . ويجوز في هم أن يكون مبتدأ ، وخبره في ظلال ، ومتكئون خبر ثان ، أو خبره متكئون ، وفي ظلال متعلق به ، أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في فاكهون ، وفي ظلال حال ، ومتكئون خبر ثان لإن ، أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في شغل ، المنتقل إليه من العامل فيه . والأعمش
وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك ، وذلك من جهة المنطوق . وعلى الأول ، شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق ، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى . وقرأ الجمهور ( في ظلال ) . قال ابن عطية : وهو جمع ظل ، إذ الجنة لا شمس فيها ، وإنما هواؤها سجسج ، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس . انتهى . وجمع فعل على فعال في الكثرة ، نحو : ذئب وذئاب . وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس ، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح . وكيف يكون ذلك ؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة ، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا ، أو نحو من هذا ؟ قال : ويحتمل أن يكون جمع ظلة . قال أبو علي : كبرمة وبرام . وقال : جمع ظلة ، بكسر الظاء . قال منذر بن سعيد ابن عطية : وهي لغة في ظلة . انتهى . فيكون مثل لقحة ولقاح ، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ . وقرأ عبد الله ، والسلمي ، وطلحة ، وحمزة ، : ( في ظل ) : جمع ظلة ، وجمع فعلة على فعل مقيس ، وهي عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل . وقرأ والكسائي عبد الله : متكئين ، نصبا على الحال ; ويدعون مضارع ادعى ، وهو افتعل من دعا ، ومعناه : ولهم ما يتمنون . قال أبو عبيدة : العرب تقول ادع علي ما شئت ، بمعنى تمن علي وتقول فلان في خبر ما تمنى . قال : وهو من الدعاء ، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم . وقيل : يدعون به لأنفسهم . وقيل : يتداعونه لقوله [ ص: 343 ] ارتموه وتراموه . الزجاج
وقرأ الجمهور : سلام بالرفع . وهو صفة لما ، أي مسلم لهم وخالص . انتهى . ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي ; لأنها تكون إذ ذاك معرفة . وسلام نكرة ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة . فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز ، إلا أنه لا يكون فيه عموم ، كحالها بمعنى الذي . وقيل : سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله ( قولا ) ، أي سلام يقال ، ( قولا من رب رحيم ) ، أو يكون عليكم محذوفا ، أي سلام عليكم ، ( قولا من رب رحيم ) . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو سلام . وقال ( الزمخشري سلام قولا ) بدل من ( ما يدعون ) ، كأنه قال : لهم سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم ، والمعنى : أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه . قال : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين . انتهى . وإذا كان سلام بدلا من ما يدعون خصوصا . والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون ، وإذا كان عموما ، لم يكن سلام بدلا منه . وقيل : سلام خبر لما يدعون ، وما يدعون مبتدأ ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه ، وقولا مصدر مؤكد ، كقوله ( ابن عباس ولهم ما يدعون سلام ) أي عدة من رحيم . قال : والأوجه أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه . انتهى . ويكون لهم متعلقا على هذا الإعراب بـ ( سلام ) . وقرأ الزمخشري القرظي : سلم ، بكسر السين وسكون اللام ، ومعناه سلام . وقال محمد بن كعب أبو الفضل : الرازي : مسالم لهم ، أي ذلك مسالم . وقرأ أبي ، وعبد الله ، وعيسى ، والقنوي : سلاما ، بالنصب على المصدر . وقال : نصب على الحال ، أي لهم مرادهم خالصا . الزمخشري
( وامتازوا اليوم ) أي انفردوا عن المؤمنين ; لأن المحشر جمع البر والفاجر ، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين . والظاهر أن ثم قولا محذوفا ؛ لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله ( سلام قولا من رب رحيم ) ، قيل : ويقال للمجرمين ( امتازوا ) . ولما امتثلوا ما أمروا به ، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع ( ألم أعهد إليكم ) ؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه . وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى ، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض . وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير . والعهد : الوصية ، عهد إليه إذا وصاه . وعهد الله إليهم : ما ركز فيهم من أدلة العقل ، وأنزل إليهم من أدلة السمع . وعبادة الشيطان : طاعته فيما يغويه ويزينه . وقرأ الجمهور : ( أعهد ) ، بفتح الهمزة والهاء . وقرأ طلحة ، والهذيل بن شرحبيل الكوفي : بكسر الهمزة ، قاله صاحب اللوامح ، وقال : لغة تميم ، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة ، يعني : نعهد وتعهد . وقال ابن خالويه : ألم أعهد ; : ألم أحد لغة يحيى بن وثاب تميم . وقال ابن عطية : وقرأ الهذيل بن وثاب : ألم إعهد ، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء . وروي عن : ألم أعهد ، بكسر الهاء ، يقال : عهد يعهد . انتهى . وقوله : بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة ; لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة ، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم . أعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظا ; لأن هذا لا يجوز . وقال ابن وثاب : وقرئ إعهد بكسر الهمزة ، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء ; وأعهد بكسر الهاء . وقد جوز الزمخشري أن يكون من باب نعم ينعم ، وضرب يضرب ، وأحهد بالحاء وأحد ، وهي لغة الزجاج تميم ، ومنه قولهم : دحا محا . انتهى . وقوله : إلا في الياء ، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضا في الياء ، يقولون : هل يعلم ؟ وقوله : دحا محا ، يريدون دعها معها ، أدغموا العين في الحاء ، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن .
وقرأ نافع ، وعاصم ( جبلا ) ، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وهي قراءة أبي حيوة ، وسهيل ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وأبي رجاء ; والحسن : [ ص: 344 ] بخلاف عنه . وقرأ العربيان ، والهذيل بن شرحبيل : بضم الجيم وإسكان الباء ; وباقي السبعة : بضمها وتخفيف اللام ; والحسن بن أبي إسحاق ، ، والزهري وابن هرمز ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحفص بن حميد : بضمتين وتشديد اللام ; والأشهب العقيلي ، واليماني ، وحماد بن مسلمة عن عاصم : بكسر الجيم وسكون الباء ; : جبلا ، بكسرتين وتخفيف اللام . وقرئ : جبلا بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام ، جمع جبلة ، نحو فطرة وفطر ، فهذه سبع لغات قرئ بها . وقرأ والأعمش وبعض الخراسانيين : جيلا ، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف ، واحد الأجيال ; والجبل بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة . وقال علي بن أبي طالب الضحاك : أقله عشرة آلاف . خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعا لهم . وقرأ الجمهور ( أفلم تكونوا ) بتاء الخطاب ; وطلحة ، وعيسى : بياء الغيبة ، عائدا على ( جبلا ) . ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون ، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم . وفي الحديث : " يقول العبد يوم القيامة : إني لا أجيز علي شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقال : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أناضل " .
وقرئ : يختم مبنيا للمفعول ، وتتكلم أيديهم ، بتاءين . وقرئ : ولتكلمنا أيديهم ، بتاءين . وقرئ : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة . وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ، بلام كي والنصب على معنى : وكذلك يختم على أفواههم . والظاهر أن الأعين هي الأعضاء المبصرة ، والمعنى : لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ، قاله الحسن وقتادة ، ويؤيده مناسبة المسخ ، فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم . وقال : أراد عين البصائر ، والمعنى : ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبدا . والطمس : إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد . فإن أريد بالأعين الحقيقة ، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة ، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره . وقرأ الجمهور ( فاستبقوا ) ، فعلا ماضيا معطوفا على ( ابن عباس لطمسنا ) ، وهو على الفرض والتقدير . ( والصراط ) منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل ، والأصل فاستبقوا إلى الصراط ، أو مفعولا به على تضمين ( استبقوا ) معنى ( تبادروا ) ، وجعله مسبوقا إليه . قال : أو ينتصب على الظرف ، وهذا لا يجوز ; لأن الصراط هو الطريق ، وهو ظرف مكان مختص . لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة ( في ) إلا في شذوذ ، كما أنشد الزمخشري : سيبويه
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومذهب ابن الطراوة أن الصراط والطريق والمخرم ، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة ، فعلى مذهبه يسوغ ما قاله . وقرأ الزمخشري عيسى : فاستبقوا على الأمر ، وهو على إضمار القول ، أي فيقال لهم استبقوا الصراط ، وهذا على سبيل التعجيز ، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين . ( فأنى يبصرون ) أي كيف يبصر من طمس على عينه ؟ والظاهر أن المسخ حقيقة ، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة . قال ( ابن عباس لمسخناهم ) قردة وخنازير ، كما تقدم في بني إسرائيل ; وقيل حجارة . وقال الحسن ، وقتادة ، وجماعة : لأقعدناهم وأزمناهم ، فلا يستطيعون تصرفا . والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا . وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة . وقرأ الحسن ( على مكانتهم ) ، بالإفراد ، وهي المكان ، كالمقامة والمقام . وقرأ الجمهور ، وأبو بكر : بالجمع . والجمهور ( مضيا ) ، بضم الميم : وأبو حيوة ، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن : بكسرها اتباعا لحركة الضاد ، كالعتبي والقتبي ، وزنه فعول . [ ص: 345 ] التقت واو ساكنة وياء ، فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها لتصح الياء . وقرئ : مضيا ، بفتح الميم ، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل ، كالرسيم والوجيف . الكسائي
ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه ، ذكر تعالى دليلا على باهر قدرته في تنكيس المعمر ، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى . وتنكيسه : قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولا ، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم ، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال إلى أن يبلغ أشده وتستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه . فإذا انتهى نكسه في الخلق ، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله ، وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد . وقرأ الجمهور ( ننكسه ) ، مشددا ; وعاصم ، وحمزة : مخففا . وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، وأبو عمرو في رواية عباس : تعقلون بتاء الخطاب ; وباقي السبعة : بياء الغيبة .
( وما علمناه الشعر ) الضمير في علمناه للرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون فيه شاعر . وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط ، فنفى الله ذلك عنه ، وقولهم فيه شاعر . أما من كان في طبعه الشعر ، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر ; وأما من ليس في طبعه ، فقوله جهل محض . وأين هو من الشعر ؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام ، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده ، فضلا عن إنشائه : وكان عليه السلام لا يقول الشعر ، وإذا أنشد بيتا أحرز المعنى دون وزنه ، كما أنشد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وقيل : من أشعر الناس ، فقال الذي يقول :
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها وإن لم تطيب طيبا
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين الأقرع وعيينة
وأنشد يوما :
كفى بالإسلام والشيب ناهيا
فقال أبو بكر وعمر : نشهد أنك رسول الله ، إنما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام ، وربما أنشد البيت متزنا في النادر . وروي عنه أنشد بيت : ابن رواحة
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ولا يدل إجراء البيت على لسانه متزنا أنه يعلم الشعر ، وقد وقع في كلامه عليه السلام ما يدخله الوزن كقوله :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وكذلك قوله :
هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته ، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف . كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعرا ، كقوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . وقوله ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) . وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء ، ولا يسمى ذلك شعرا ، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر . ( وما ينبغي له ) أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب ; لأنه عليه السلام في طريق جد محض ، والشعر أكثره في طريق هزل ، وتحسين لما ليس حسنا ، وتقبيح لما ليس قبيحا ومغالاة مفرطة . جعله تعالى لا يقرض الشعر ، كما جعله أميا لا يخط ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض . وقيل : في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر ، وقد قال عليه السلام : " ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " . وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه ، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام . وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب ، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن : هذا من تلك [ ص: 346 ] القوة . قال ابن عطية : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا ، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ويندر بوصفه ، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام ; وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعا له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول . وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهذا كان أسلوب كلامه - عليه السلام - وقولا واحدا . انتهى .
والضمير في ( له ) للرسول ، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن ، أي وما ينبغي الشعر للقرآن ، ولم يجر له ذكر ، لكن له أن يقول : يدل الكلام عليه ، ويبينه عود الضمير عليه في قوله ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين . فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين ؟ وقرأ نافع ، وابن عامر : لتنذر بتاء الخطاب للرسول ; وباقي السبعة : بالياء للغيبة ، فاحتمل أن يعود على الرسول ، واحتمل أن يعود على القرآن . وقرأ اليماني ( لينذر ) ، بالياء مبنيا للمفعول ، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري . وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرآ : لينذر ، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال ، إذا علم بالشيء فاستعد له . ( من كان حيا ) أي غافلا ، قاله الضحاك ; لأن الغافل كالميت ; ويريد به من ختم عليه بالإيمان ، وكذلك قابله بقوله ( ويحق القول ) أي كلمة العذاب ، ( على الكافرين ) المحتوم لهم بالموافاة على الكفر .