( احشروا ) خطاب من الله للملائكة ، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض ، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات ، قاله ، ورجحه ابن عباس الرماني . وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمرو بن عباس أيضا ، أو أشباههم من العصاة ، وأهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة ، أو قرناؤهم الشياطين . وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي ( وأزواجهم ) مرفوعا عطفا على ضمير ظلموا ، أي وظلم أزواجهم . ( فاهدوهم ) أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها ، والجحيم طبقة من طبقات جهنم . ( وقفوهم ) كما قال ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) وهو توبيخ لهم ( إنهم مسئولون ) . وقرأ عيسى : أنهم ، بفتح الهمزة . قال عبد الله : يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم ، وعنه أيضا : يسألون عن لا إله إلا الله . وقال الجمهور : وعن أعمالهم ، ويوقفون على قبحها . وفي الحديث : " : شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن ما عمل فيما علم لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس " . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله ( ما لكم لا تناصرون ) ، أي إنهم مسئولون [ ص: 357 ] عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع . وقال : هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين . وقال الثعلبي ( الزمخشري ما لكم لا تناصرون ) ، جواب أبي جهل حين قال في بدر ( نحن جميع منتصر ) . وقرئ : لا تناصرون ، بتاء واحدة وبتاءين ، وبإدغام إحداهما في الأخرى .
( بل هم اليوم مستسلمون ) أي قد أسلم بعضهم بعضا ، وخذله عن عجز ، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر . ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) قال قتادة : هم جن وإنس ، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط . قالوا : أي قالت الإنس للجن . قال مجاهد ، وابن زيد : أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم . و ( اليمين ) الجارحة ، وليست مرادة هنا . فقيل : استعيرت لجهة الخير ، أو للقوة والشدة ، أو لجهة الشهوات ، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد ، أو الحلف . ولكل من هذه الاستعارات وجه .
فأما استعارتها لجهة الخير ، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها ، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح ، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور ، ويباشرون بها أفاضل الأشياء ، وجعلت لكاتب الحسنات ، ولأخذ المؤمن كتابه بها ، والشمال بخلاف ذلك . وأما استعارتها للقوة والشدة ، فإنها يقع بها البطش ، فالمعنى : أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال . وأما استعارتها لجهة الشهوات ، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده ، وجهة شماله فيها قلبه ومكره ، وهي أخف ، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر ، إذ هو أخف شقيه . وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء ، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه . وأما الحلف ، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه .
( قالوا ) ، أي المخاطبون ، إما الجن وإما قادة الكفر ( بل لم تكونوا مؤمنين ) أي لم نقركم على الكفر ، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان . وقال : وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوما على الكفر غير ملجئين ، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوما مختارين الطغيان . انتهى . ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جريا على مذهبهم . ( الزمخشري فحق علينا قول ربنا ) أي لزمنا قول ربنا ، أي وعيده لنا بالعذاب . والظاهر أن قوله ( إنا لذائقون ) ، إخبار منهم أنهم ذائقو العذاب جميعهم ، الرؤساء ، والأتباع . وقال : فلزمنا قول ربنا ( الزمخشري إنا لذائقون ) ، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة . ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ; لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ، ونحوه قول القائل :
لقد زعمت هوازن قل مالي
ولو حكى قولها لقال : قل مالك ، ومنه قول المحلف للحالف : لأخرجن ، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على الحلف . انتهى . ( فأغويناكم ) دعوناكم إلى الغي ، فكانت فيكم قابلية له فغويتم . ( إنا كنا غاوين ) فأردنا أن تشاركونا في الغي . ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ) أي يوم إذ تساءلوا وتراجعوا في القول ، وهذا إخبار منه تعالى ، كما اشتركوا في الغي ، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب . ( إنا كذلك ) أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم ، فيترتب على إجرامه عذابه . ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم ، وهو الشرك بالله ، واستكبارهم عن توحيده ، وإفراده بالإلهية . ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول ، وهو نسبته إلى الشعر والجنون ، وأنهم ليسوا بتارك آلهتهم له ولما جاء به ، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة . وقولهم ( لشاعر مجنون ) تخليط في كلامهم ، وارتباك في [ ص: 358 ] غيهم . فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة ، ومن كان مجنونا لا يصل إلى شيء من ذلك .
ثم أضرب تعالى عن كلامهم ، وأخبر بأن جاء الحق ، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال ، فليس ما جاء به شعرا ، بل هو الحق الذي لا شك فيه . ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين ، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره . وقرأ عبد الله : وصدق بتخفيف الدال ، المرسلون بالواو رفعا ، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم . وقرأ الجمهور ( لذائقو العذاب ) ، بحذف النون للإضافة ; وأبو السمال ، وأبان ، عن ثعلبة ، عن عاصم : بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب . كما حذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله ، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ : لذائق منونا ، العذاب بالنصب ، ويخرج على أن التقدير جمع ، وإلا لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في ( إنكم ) ، وقول الشاعر :
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا
وقرئ : لذائقون بالنون ، العذاب بالنصب ، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم ، إذ هو ثمرة عملكم .