[ ص: 363 ] لما انقضت قصة المؤمن وقرينه ، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء ، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال : أذلك الرزق ( خير نزلا ) والنزل ما يعد للأضياف ، وعادل بين ذلك الرزق وبين ( شجرة الزقوم ) . فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور ، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم ، فلا اشتراك بينهما في الخيرية . والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين أحدهما فاسد . ولو كان الكلام استفهاما حقيقة لم يجز ، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيرا حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة . ولكن المؤمن لما اختار ما أدى إلى رزق الجنة ، والكافر اختار ما أدى إلى شجرة الزقوم ، قيل ذلك توبيخا للكافرين وتوقيفا على سوء اختيارهم . ( إنا جعلناها فتنة للظالمين ) قال قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أبو جهل ونظراؤه ، لما نزلت قال للكفار يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار ، وهي تأكلها وتذهبها ، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم . وقال أبو جهل : إنما الزقوم : التمر بالزبد ، ونحن نتزقمه . وقيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها . واستعير الطلع ، وهي النخلة ، لما تحمل هذه الشجرة ، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رءوس الشياطين ، وهي بناحية اليمن يقال لها الأستن ، وذكرها النابغة في قوله :
تحيد عن أستن سود أسافله مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما
وهو شجر خشن مر منكر الصورة ، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برءوس الشياطين ، ثم صار أصلا يشبه به . وقيل : هو شجرة يقال لها الصوم ، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله :
موكل بشدوف الصوم يرقبها من المناظر مخطوف الحشا زرم
وقيل : الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف ، ومنه :
عجيز تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف
وقيل : شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رءوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت غير مرئية ، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور . وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا : كأنه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، وهذه بخلاف الملك ، يشبهون به الصورة الحسنة . وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب ، وهذا كله تشبيه تخييلي . والضمير في منها يعود على الشجرة ، أي من طلعها . وقرأ الجمهور ( لشوبا ) بفتح الشين ; وشيبان النحوي : بضمها . وقال : الفتح للمصدر والضم للاسم ، يعني أنه فعل بمعنى مفعول ، أي مشوب ، كالنقص بمعنى المنقوص . وفسر بالخلط والحميم : الماء السخن جدا ، وقيل : يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم . ولما ذكر أنهم يملئون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي يلحقهم ، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم ، ذكر ما يسقون لغلبة العطش ، وهو ما يمزج لهم من الحميم . ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن ، كان العطف بالفاء في قوله ( الزجاج فمالئون ) . ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل ، أتي بلفظ ( ثم ) المقتضية المهلة ، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة ، وهو حار ، أحرق بطونهم وعطشهم ، فأخر سقيهم زمانا ليزدادوا بالعطش عذابا إلى عذابهم ، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره .
( ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ) لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من [ ص: 364 ] الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم ، دخلت ( ثم ) للدلالة على ذلك ، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما ، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم . والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سببا لاستحقاقهم تلك الشدائد ، أي وجدوا آباءهم ضالين ، فاتبعوهم على ضلالتهم ، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء . ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم ، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل ، وإنذارهم عواقب التكذيب . وفي قوله ( فانظر ) ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم ، واستثنى المخلصين من عباده ، وهم الأقل المقابل لقوله ( أكثر الأولين ) ، والمعنى : إلا عباد الله ، فإنهم نجوا . ولما ذكر ضلال الأولين ، وذكر أولهم شهرة ، وهم قوم نوح - عليه السلام - تضمن أشياء منها : الدعاء على قومه ، وسؤاله النجاة ، وطلب النصرة . وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده . واللام في ( فلنعم ) جواب قسم كقوله :
يمينا لنعم السيدان وجدتما
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فلنعم المجيبون نحن ، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله ( فقدرنا فنعم القادرون ) و ( الكرب العظيم ) ، قال : الغرق ، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء ، وهوله ، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره . قال السدي ، ابن عباس وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح . وفي الحديث : وجعلنا ذريته هم الباقين ) فقال : سام وحام ويافث " . وقال " أنه عليه السلام قرأ ( : العرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك وغيرهم من أولاد يافث . وقالت فرقة : أبقى الله ذرية الطبري نوح ومد في نسله ، وليس الناس منحصرين في نسله ، بل في الأمم من لا يرجع إليه .
( وتركنا عليه في الآخرين ) أي في الباقين غابر الدهر ; ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا في آخر الدهر ، قاله ، ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، و ( سلام ) رفع بالابتداء مستأنف ، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر ، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء . سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلا ، من أقوال الكفرة وإذايتهم له . وقال ( الزمخشري وتركنا عليه في الآخرين ) ، هذه الكلمة ، وهي ( سلام على نوح في العالمين ) يعني : يسلمون عليه تسليما ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت سورة أنزلناها . انتهى . وهذا قول الفراء وغيره من الكوفيين ، وهذا هو المتروك عليه ، وكأنه قال : وتركنا على نوح تسليما يسلم به عليه إلى يوم القيامة . انتهى . وفي قراءة عبد الله : سلاما بالنصب ، ومعنى في العالمين : ثبوت هذه التحية مثبوتة فيهم جميعا ، مدامة عليه في الملائكة ، والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم . ثم علل هذه التحية بأنه كان محسنا ، ثم علل إحسانه بكونه مؤمنا ، فدل على جلالة الإيمان ومحله عند الله . ( ثم أغرقنا الآخرين ) أي من كان مكذبا له من قومه ، لما ذكر تحياته ونجاة أهله ، إذ كانوا مؤمنين ، ذكر هلاك غيرهم بالغرق .