أمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - أن يخبرهم بأنه نهي أن يعبد أصنامهم ، لما جاءته البينات من ربه ، فهذا نهي بالسمع ، وإن كان منهيا بدلائل العقل ، فتظافرت أدلة السمع وأدلة العقل على النهي عن عبادة الأوثان .
فمن أدلة السمع قوله تعالى : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) إلى غير ذلك ، وذكره أنه نهي بالسمع لا يدل على أنه كان منهيا بأدلة العقل . ولما نهي عن عبادة الأوثان ، أخبر أنه أمر بالاستسلام لله تعالى ، ثم بين أمر الوحدانية والألوهية التي أصنامهم عارية عن شيء منهما ، بالاعتبار في تدريج ابن آدم بأن ذكر مبدأه الأول ، وهو من تراب .
ثم أشار إلى التناسل بخلقه من نطفة ، والطفل اسم جنس ، أو يكون المعنى : ( ثم يخرجكم ) ، أي : كل واحد منكم طفلا ، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد .
و ( من قبل ) ، قال مجاهد : من قبل أن يكون شيخا ، قيل : ويجوز أن يكون من قبل هذه الأحوال ، إذا خرج سقطا ، وقيل : عبارة بتردده في التدريج المذكور ، ولا يختص بما قبل الشيخ ، بل منهم من يموت قبل أن يخرج طفلا ، وآخر قبل الأشد ، وآخر قبل الشيخ .
( ولتبلغوا ) : متعلق بمحذوف ، أي : يبقيكم لتبلغوا ، أي : ليبلغ كل واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه . قال مجاهد : يعني موت الجميع ، وقيل : هو يوم القيامة . و ( لعلكم تعقلون ) ما في ذلك من العبرة والحجج ، إذا نظرتم في ذلك وتدبرتم .
ولما ذكر رتب الإيجاد ، ذكر أنه المتصف بالإحياء والإماتة ، وأنه متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده من غير تأخر ، وتقدم الكلام على مثل هذه الجمل .
ثم قال بعد ظهور هذه الآيات : ألا تعجب إلى المجادل في رسالة الرسول - عليه السلام - والكتاب الذي جاء به بدليل قوله : ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا ) ، ثم هددهم بقوله : ( فسوف يعلمون ) ، وهذا قول الجمهور .
وقال وغيره : هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة ، ورووا في نحو هذا حديثا وقالوا : هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعل قوله : ( محمد بن سيرين الذين كذبوا ) كلاما مستأنفا في الكفار ، ويكون ( الذين كذبوا ) مبتدأ ، وخبره : ( فسوف يعلمون ) . وأما على الظاهر ، فالذين بدل من الذين ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا على الذم ، و ( إذ ) ظرف لما مضى ، فلا يعمل فيه المستقبل ، كما لا يقول : سأقوم أمس ، فقيل : إذا يقع موقع ( إذ ) وأن موقعها على سبيل المجاز ، فيكون ( إذ ) هنا بمعنى إذا ، وحسن ذلك تيقن وقوع الأمر ، وأخرج في صيغة الماضي ، وإن كان المعنى على الاستقبال .
قال النخعي : لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل ، لأرحضه حتى يبلغ إلى الماء الأسود .
وقرأ : ( والسلاسل ) عطفا على ( الأغلال ) ( يسحبون ) مبنيا للمفعول .
وقرأ ، ابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن علي وابن وثاب ، والمسيء في اختياره : [ ص: 475 ] ( والسلاسل ) بالنصب على المفعول ، ( يسحبون ) مبنيا للفاعل ، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية .
وقرأت فرقة منهم : ( والسلاسل ) بجر اللام . قال ابن عباس ابن عطية : على تقدير ، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي مصحف أبي ( وفي السلاسل يسحبون ) .
وقال : ووجهه أنه لو قيل : إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله : ( الزمخشري إذ الأغلال في أعناقهم ) ، لكان صحيحا مستقيما . فلما كانتا عبارتين معتقبتين ، حمل قوله : ( والسلاسل ) على العبارة الأخرى ، ونظيره قول الشاعر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعبا إلا ببين غرابها
كأنه قيل : بمصلحين .
وقرئ ( وبالسلاسل ) انتهى ، وهذا يسمى العطف على التوهم ، ولكن توهم إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها ، ونظير ذلك قول الشاعر :
أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيداء ناجية زمولا
ولا متدارك والليل طفل ببعض نواشع الوادي حمولا
التقدير : لست براء ولا متداركا .
وهذا الذي قاله ابن عطية سبقهما إليه والزمخشري الفراء ، قال : من جر السلاسل حمله على المعنى ؛ لأن المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل .
وقال : من قرأ بخفض ( الزجاج والسلاسل ) فالمعنى عنده : وفي السلاسل يسحبون .
وقال : والخفض على هذا المعنى غير جائز ، لو قلت : زيد في الدار ، لم يحسن أن تضمر في فتقول : زيد الدار ، ثم ذكر تأويل ابن الأنباري الفراء ، وخرج القراءة ثم قال : كما تقول : خاصم عبد الله زيدا العاقلين ، بنصب العاقلين ورفعه ؛ لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر . انتهى .
وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي ، قال : لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ، وقرئ : ( وبالسلاسل يسحبون ) ولعل هذه القراءة حملت على أن تأول الخفض على إضمار حرف الجر ، وهو تأويل شذوذ . الزجاج
وقال : في قراءة من نصب ( ابن عباس والسلاسل ) وفتح ياء ( يسحبون ) إذا كانوا يجرونها ، فهو أشد عليهم ، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون .
وقال مجاهد : ( يسجرون ) : يطرحون فيها ، فيكونون وقودا لها . وقال : ( السدي يسجرون ) يحرقون .
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة من جهة التوبيخ والتقريع ، فيقال لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا ؟ فيقولون : ( ضلوا عنا ) أي : تلفوا منا وغابوا واضمحلوا ، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون : ( بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ) وهذا من أشد الاختلاط في الذهن والنظر .
ولما تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا ، وما كانوا يعبدون بعبادتهم شيئا ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء ، فإذا هو ليس بشيء إذا اختبرته ، فلم تر عنده جزاء .
وقولهم : ( ضلوا عنا ) ، مع قوله : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) يحتمل أن يكون ذلك عند تقريعهم ، فلم يكونوا معهم إذ ذاك ، أو لما لم ينفعوهم قالوا : ( ضلوا عنا ) ، وإن كانوا معهم .
( كذلك ) أي : مثل هذه الصفة وبهذا الترتيب ، ( يضل الله الكافرين ) ، وقال أي : مثل ضلال آلهتهم عنهم ، يضلهم عن آلهتهم ، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا . الزمخشري
ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح ، ( بغير الحق ) : وهو الشرك وعبادة الأوثان .
وقال ابن عطية : ذلك العذاب الذي أنتم فيه مما كنتم تفرحون في الأرض بالمعاصي والكفر . انتهى .
و ( تمرحون ) ، قال : الفخر والخيلاء ; وقال ابن عباس مجاهد : الأشر والبطر . انتهى ، فقال لهم ذلك توبيخا أي : إيمانا لكم [ ص: 476 ] هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعاصي وكثرة المال والأتباع والصحة .
وقال الضحاك : الفرح والسرور ، والمرح : العدوان ، وفي الحديث : " إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين " .
و ( تفرحون ) و ( تمرحون ) من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع ، وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين .
( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ) : الظاهر أنه قيل لهم : ادخلوا بعد المحاورة السابقة ، وهم قد كانوا في النار ، ولكن هذا أمر يقيد بالخلود ، وهو الثواء الذي لا ينقطع ، فليس أمرا بمطلق الدخول ، أو بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة أبواب ، التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار ، فكان ذلك أمرا بالدخول يفيد التجزئة لكل باب .
وقال ابن عطية : وقوله تعالى : ( ادخلوا ) معناه : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا ؛ لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم ، وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم .
وأبواب جهنم : هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة . انتهى .
و ( خالدين ) حال مقدرة ، ودلت على الثواء الدائم ، فجاء التركيب : ( فبئس مثوى المتكبرين ) فبئس مدخل المتكبرين ؛ لأن نفس الدخول لا يدوم ، فلم يبالغ في ذمه ، بخلاف الثواء الدائم .