[ ص: 507 ] ( أم لهم شركاء ) : استفهام تقرير وتوبيخ . لما ذكر تعالى أنه شرع للناس ( ما وصى به نوحا ) الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى .
والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر ، كالشياطين والمغوين من الناس . والضمير في ( شرعوا ) عائد على الشركاء ، والضمير في ( لهم ) عائد على الكفار المعاصرين للرسول ; ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان وكل من جعلوه شريكا لله .
وأضيف الشركاء إليهم ؛ لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة إليهم بهذه الملابسة ، وتارة إلى الله .
والضمير في ( شرعوا ) يحتمل أن يعود على الشركاء ، و ( لهم ) عائد على الكفار ، لما كانت سببا لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم - عليه السلام - : ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) .
واحتمل أن يعود على الكفار ، و ( لهم ) عائد على الشركاء ، أي : شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم ، أي : رسموا لهم غواية وأحكاما في المعتقدات ، كقولهم : إنهم آلهة ، وإن عبادتهم تقربهم إلى الله ; ومن الأحكام : البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك .
( ولولا كلمة الفصل ) أي : العدة بأن الفصل في الآخرة ، أو لولا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر ، أو بين المشركين وشركائهم .
وقرأ الجمهور : ( إن الظالمين ) ، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة النار . وقرأ ، الأعرج ومسلم بن جندب ( وأن ) بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل ، فهو في موضع رفع ، أي : ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة ، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لولا ، كما فصل في قوله : ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) .
( ترى الظالمين ) أي : تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين ، ( مشفقين ) : خائفين الخوف الشديد ، ( مما كسبوا ) من السيئات ، ( وهو ) أي : العذاب ، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف ، أي : وبال كسبوا من السيئات ، أو جزاؤه حال بهم .
( وهو واقع ) : فإشفاقهم هو في هذه الحال ، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة . ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها ، ذكر أن المؤمنين فيها .
واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات ، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم .
و ( عند ) ظرف ، قال الحوفي : معمول لـ ( يشاءون ) . وقال : منصوب بالظرف لا يشاءون . انتهى ، وهو الصواب . الزمخشري
ويعني بالظرف : الجار والمجرور ، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم ، والمعنى : ما يشاءون من النعيم والثواب مستقر لهم .
( عند ربهم ) : والعندية عندية المكانة والتشريف لا عندية المكانة . وقرأ الجمهور : ( يبشر ) بتشديد الشين ، من بشر ; وعبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري ، ، والأعمش وطلحة في رواية ، ، والكسائي وحمزة : ( يبشر ) ثلاثيا ; ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين .
وأما بشر بفتحها فتعد ، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية ؛ لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه ; فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية .
( ذلك ) : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : يبشر الله به عباده .
وقال : أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده . انتهى . الزمخشري
ولا يظهر هذا الوجه ، إذ [ ص: 516 ] لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه .
ومن النحويين من جعل ( الذي ) مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأول عليه هذه الآية ، أي : ذلك تبشير الله عباده ، وليس بشيء ؛ لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل .
وقد ثبتت اسمية ( الذي ) فلا يعدل عن ذلك بشيء لا تقوم به دليل ولا شبهة .
( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) . روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل أجرا على ما يتعاطاه ؟ فنزلت . وروي أن الأنصار أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، هدانا الله بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك ، فنزلت الآية ، فرده .
وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت .
فالمعنى : لا أسألكم مالا ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك وغيرهم . والشعبي
قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى الشعبي نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أوسط الناس في ابن عباس قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي منكم ، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني .
وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها . وقال الحسن : المعنى إلا أن تتوددوا إلى الله بالتقرب إليه .
وقال عبد الله بن القاسم : إلا أن يتودد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم .
روي أن شبابا من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم . وقال بهذا المعنى ، واستشهد بالآية حين سيق إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الشام أسيرا ، وهو قول ابن جبير والسدي ، وعلى هذا التأويل قال وعمرو بن شعيب : قيل يا رسول الله : من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم ؟ فقال : ابن عباس علي وفاطمة وابناهما .
وقيل : هم ولد عبد المطلب . والظاهر أن قوله : ( إلا المودة ) استثناء منقطع ؛ لأن المودة ليست أجرا .
وقال : يجوز أن يكون استثناء متصلا ، أي : لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا : أن تودوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ؛ لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة . الزمخشري
وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودة القربى ، أو إلا المودة للقربى ؟ قلت : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله . وليست في صلة للمودة كاللام ، إذا قلت إلا المودة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير . وقرأ ( إلا مودة ) والجمهور ( زيد بن علي إلا المودة ) .
( ومن يقترف حسنة ) أي : يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودة في القربى وغيرها . وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودة في آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ الجمهور : ( نزد ) بالنون ; ، وزيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن : ( يزد ) بالياء ، أي : يزد الله . الكسائي
والجمهور : ( حسنا ) بالتنوين ; وعبد الوارث عن أبي عمرو : ( حسنى ) بغير تنوين ، على وزن رجعى ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها .
( أن الله غفور ) : ساتر عيوب عباده ، ( شكور ) : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل .
وقال : غفور لذنوب السدي آل محمد - عليه السلام - ، شكور لحسناتهم .
( أم يقولون افترى على الله كذبا ) : أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، أي : مثله لا ينسب إليه الكذب [ ص: 517 ] على الله ، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة .
( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، حتى لا يشق عليك قولهم : إنك مفتر . وقال قتادة وجماعة : ( يختم على قلبك ) : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفتريات وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر ، ولو شاء أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ، فقصد اللفظ هذا المعنى ، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا . انتهى .
هكذا أورد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية ، وفي ألفاظه فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء .
وقال : عن الزمخشري قتادة : ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي ، يعني لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك . انتهى .
وقال أيضا : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم . الزمخشري
ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم . ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ) ، يعني : لو كان مفتريا ، كما يزعمون ، لكشف الله افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه . انتهى .
وقيل : المعنى لو افتريت على الله ، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن . وقيل : لختم على قلبك بالصدق واليقين ، وقد فعل ذلك .
وذكر القشيري أن المعنى : يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب . انتهى ، فيكون التفاتا من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الجمع إلى الإفراد ، أي : يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على الله كذبا .
( ويمحو الله الباطل ) : استئناف إخبار ، أي : يمحوه إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله . وكتب ( ويمح ) بغير واو ، كما كتبوا ( سندع ) بغير واو ، اعتبارا بعدم ظهورها ؛ لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار .
ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط . وقال : ويجوز أن تكون عدة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم . إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك . انتهى . قيل : ويحق الإسلام بكلماته ، أي : بما أنزل من القرآن . وتقدم الكلام في شرائط التوبة ، يقال : قبلت منه الشيء بمعنى : أخذته منه ، لقوله : ( الزمخشري وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم ) أي : تؤخذ ، أي : جعلته مبدأ قبولي ومنشأه ، وقبلته عنه : عزلته عنه وأبنته ، فمعنى ( عن عباده ) أي : يزيل الرجوع عن المعاصي .
( ويعفو عن السيئات ) ، قال : عن السيئات إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . الزمخشري
إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة ، ( ويعلم ما تفعلون ) ، فيثيب ويعاقب . وقرأ الجمهور ( ما يفعلون ) بياء الغيبة ; وعبد الله ، وعلقمة ، والأخوان ، وحفص : بتاء الخطاب . والظاهر أن ( الذين ) فاعل ، ( ويستجيب ) أي : ويجيب ، ( الذين آمنوا ) لربهم ، كما قال : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، فيكون ( يستجيب ) بمعنى يجيب ، أو يبقى على بابه من الطلب ، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة .
وقال : هذا في فعلهم إذا دعاهم . وعن سعيد بن جبير أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب ؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : ( إبراهيم بن أدهم والله يدعو إلى دار السلام ) .
( ويستجيب الذين آمنوا ) ، قال : ( الذين ) مفعول ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد ، فالمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا ، [ ص: 518 ] أي : للذين ، كما قال : الزجاج
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي : لم يجبه . وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل . وابن عباس
( ويزيدهم من فضله ) أي : على الثواب تفضلا . وفي الحديث : قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان . وقال : نظرنا إلى أموال خباب بن الأرت بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، فنزلت : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) . وقال : طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه السلام أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فنزلت . أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة . فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر ، وآخر بالغنى . وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه عمرو بن حريث أنس وقال : اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني . و ( لبغوا ) إما من البذخ والكبر ، أي : لتكبروا في الأرض ، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى . ألا ترى إلى حال قارون ؟ وفي الحديث : " " وقال الشاعر : أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا
وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا وبين بني رومان نبعا وشوحطا
يعني : أنهم أحبوا ، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن .( ولكن ينزل بقدر ما يشاء ) ، يقال : قدر بالسكون وبالفتح ، أي : يقدر لهم ما هو أصلح لهم . وقرأ الجمهور : ( قنطوا ) ، بفتح النون ; ، والأعمش وابن وثاب : بكسرها ، ( وينشر رحمته ) : يظهرها من آثار الغيث من المنافع والخصب ، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث . وقال : ( رحمته ) الغيث ، وعدد النعمة بعينها بلفظين . وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس ؛ لأنه إذا دام المطر سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ، ذكره السدي المهدوي .
( وهو الولي ) : الذي يتولى عباده ، ( الحميد ) : المحمود على ما أسدى من نعمائه ( وما بث ) الظاهر أنه مجرور عطفا على السماوات والأرض . ويجوز أن يكون مرفوعا عطفا على ( خلق ) على حذف مضاف ، أي : وخلق ما بث . وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه ( دابة ) إلى المجموع المذكور ، وإن كان ملتبسا ببعضه . كما يقال : بنو فلان صنعوا كذا ، وإنما صنعه واحد منهم ، ومنه يخرج منهما ، وإنما يخرج من الملح ، أو يكون من الملائكة . بعض يمشي مع الطيران ، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي ، أو يكون قد خلق في السماوات حيوانا يمشي مع مشي الأناسي على الأرض ، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب . وقد يقع أحيانا ، كالضفادع ، والسحاب داخل في اسم السماء .
وقال مجاهد : ( وما بث فيهما من دابة ) : هم الناس والملائكة . وقال أبو علي : هو على حذف مضاف ، أي : وما بث في أحدهما . وقرأ الجمهور ( فيهما ) بالفاء ، وكذا هي في معظم المصاحف . واحتمل ( ما ) أن تكون شرطية ، وهو الأظهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو ، وهي موجودة . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر في رواية ، وشيبة ( بما ) بغير فاء ، فـ ( ما ) موصولة ، ولا يجوز أن تكون شرطية ; وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه بالشعر ، وأجاز ذلك سيبويه الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء . وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا ، والمصيبة : الرزايا والمصائب في الدنيا ، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه ، وأنه تعالى يعفو عن كثير ، ولا يجازي عليه بمصيبة . وفي الحديث : " لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر " . وسئل عن مرضه فقال ; إن أحبه إلي أحبه إلى الله ، وهذا مما كسبت يداي . ورؤي على كف عمران بن حصين شريح قرحة ، فقيل : بم هذا ؟ فقال : بما كسبت يداي .
وقال : الآية مخصوصة بالمجرمين ، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب المجرم ويعفو عن بعض . فأما من [ ص: 519 ] لا جرم له ، كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره ، فللعوض الموفي والمصلحة ، وعن علي هذه أرجى آية للمؤمنين . وقال الزمخشري الحسن : ( من مصيبة ) أي : حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم .
( ويعفو ) الله ( عن كثير ) ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه .
( وما أنتم بمعجزين ) أي : أنتم في قبضة القدرة . وقيل : ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) ، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما ، بل أكثر ما يبتلى به الصالحون المتقون . وفي الحديث : " " . ولأن الدنيا دار التكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء ، وليس الأمر كذلك . وهذا القول يؤخره نصوص القرآن ، كقوله تعالى : ( خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ) الآية .