[ ص: 525 ] الظاهر أن ( وقال ) ماض لفظا ومعنى ، أي : ( وقال الذين آمنوا ) في الحياة الدنيا ، ويكون ( يوم القيامة ) معمولا لـ ( خسروا ) ، ويحتمل أن يكون معنى ( وقال ) : ويقول ، و ( يوم القيامة ) معمول لو يقولوا ، أي : ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم .
الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا ، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم ، أي : لا ينتفعون بهم ; وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين ، كآسية امرأة فرعون ، فهم لا ينتفعون بهم أيضا . وقيل : أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا ، والظاهر أن قوله : ( ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) من كلام المؤمنين ; وقيل : استئناف إخبار من الله تعالى .
( من قبل أن يأتي يوم ) ، قيل : هو يوم ورود الموت ، والظاهر أنه يوم القيامة . و ( من الله ) متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر ، أي : لا يرد ذلك اليوم من ما حكم الله به فيه . وقال : ( من الله ) : من صلة ( لا مرد ) . انتهى . الزمخشري
وليس الجيد ، إذ لو كان من صلته لكان معمولا له ، فكان يكون معربا منونا . وقيل : ( من الله ) يتعلق بقوله : ( يأتي ) ، من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده .
( ما لكم من ملجإ ) تلجأون إليه ، فتتخلصون من العذاب ، وما لكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار ، والنكير مصدر أنكر على غير قياس .
قيل : ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة ، وفيه بعد ؛ لأن نكر معناه لم يميز .
( فإن أعرضوا ) الآية : تسلية للرسول وتأنيس له ، وإزالة لهمه بهم . والإنسان : يراد به الجنس ، ولذلك جاء : ( وإن تصبهم سيئة ) . وجاء جواب الشرط ( فإن الإنسان ) ولم يأت فإنه ، ولا فإنهم ، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : ( إن الإنسان لظلوم كفار ) ، ( إن الإنسان لربه لكنود ) .
ولما ذكر أنه يكفر النعم ، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي ، وأنه يفعل ما يريد ، ونبه على عظيم قدرته ، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته ، فذكر أنه يهب لبعض إناثا ، ولبعض ذكورا ، ولبعض الصنفين ، ويعقم بعضا فلا يولد له .
وقال : نزلت هذه الآية في الأنبياء ، ثم عمت . إسحاق بن بشر فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور ، و إبراهيم ضده ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم وعليهما - ولد له الصنفان ، ويحيى عقيم . انتهى .
وذكر أيضا مع لوط شعيب ، ومع يحيى عيسى ، وقدم تعالى هبة البنات تأنيسا لهن وتشريفا لهن ، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن .
وفي الحديث : " " . من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار
وقال : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ؛ لأن الله تعالى بدأ بالإناث . واثلة بن الأسقع
وقال : ( فإن قلت ) : لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم ؟ ولم عرف الذكور بعدما نكر الإناث ؟ ( قلت ) : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى . وكفران الإنسان : نسيانه الرحمة السابقة عنده . الزمخشري
ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه ، لا ما يشاء الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم أوجب التقديم .
والبلاء : الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ، ذكر البلاء وأخر الذكور . فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره ، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفريقين ، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم . ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير ، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتضى آخر فقال : ( ذكرانا وإناثا ) ، كما قال : ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) ، ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) . انتهى .
وقيل : بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر ، لتنقله من الغم إلى الفرح . وقيل : ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى . [ ص: 526 ] فإذا وهب له الذكر ، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه .
وقيل : قدمها تنبيها على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم ، كانت عناية الله أكثر .
وقال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ، ثم تلد جارية . وقال : أن تلد توأما ، غلاما وجارية . وقال محمد ابن الحنفية : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . قال علماؤنا : يعني أبو بكر بن العربي آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ، ذكرا وأنثى ; تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر . انتهى .
ولما ذكر الهبة في الإناث ، والهبة في الذكور ، اكتفى عن ذكرها في قوله : ( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) . ولما كان العقم ليس بمحمود قال : ( ويجعل من يشاء عقيما ) ، وهو قسيم لمن يولد له . ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده ، لم يذكره تعالى . قالوا : وكانت الخلقة مستمرة ، ذكرا وأنثى ، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه ، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم .
فلما جن عليه الليل ، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار ، وأنكرت خادمته حاله فسألته ، فقال : بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه ، فقالت له : ما هو ؟ فقال : شخص له ذكر وفرج ، كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم ، فرضوا بها .
وجاء الإسلام على ذلك ، وقضى بذلك علي ، كرم الله وجهه ، إنه عليم بمصالح العباد ، قدير على تكوين ما يشاء .
كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى ، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم ، فنزلت . وقيل : كانت قريش تقول : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا ، كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال لهم الرسول - عليه السلام - : " لم ينظر موسى إلى الله " ، فنزلت : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله ) ، بيانا لصورة تكليم الله عباده أي : ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام .
قال مجاهد : أو النفث في القلب . وقال النقاش : أو وحي في المنام . وقال النخعي : كان في الأنبياء من يخط له في الأرض ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا ، كموسى - عليه السلام - ، وهذا معنى ( من وراء حجاب ) أي : من خفاء عن المتكلم ، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في المشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى ، قاله ابن عطية .
وقال : وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه : الزمخشري
إما على طريق الوحي ، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم - عليه السلام - في ذبح ولده .
وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود - عليه السلام - في صدره ، قال عبيد بن الأبرص :
وأوحى إلي الله أن قد تأمروا بابن أبي أوفى فقمت على رجل
أي : ألهمني وقذف في قلبي . وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ؛ لأنه في ذاته غير مرئي .وقوله : ( من وراء حجاب ) مثل ، أي : كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه ، وهو من وراء حجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة . وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه ، كما كلم الأنبياء غير موسى . انتهى .
وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله .
وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي ، وخص الأول باسم الوحي هنا ؛ لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى .
وقيل : ( وحيا ) كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة ( أو يرسل رسولا ) أي : نبيا ، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ، حكاه ، وترك تفسير ( الزمخشري أو من وراء حجاب ) ، ومعناه في هذا القول : كما كلم محمدا وموسى - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 527 ] وقرأ الجمهور : ( حجاب ) ، مفردا ; : حجب جمعا . وقرأ الجمهور : بنصب الفعلين ، عطف ( أو يرسل ) على المضمر الذي يتعلق به ( وابن أبي عبلة من وراء حجاب ) تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، وهذا المضمر معطوف على ( وحيا ) والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب ، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء ، ولا يجوز أن يعطف ( أو يرسل ) على ( أن يكلمه الله ) لفساد المعنى .
وقال : و ( وحيا ) و ( أن يرسل ) مصدران واقعان موقع الحال ؛ لأن أن يرسل في معنى إرسالا ، و ( الزمخشري من وراء حجاب ) ظرف واقع موقع الحال أيضا ، كقوله : ( وعلى جنوبهم ) ، والتقدير : وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا . انتهى .
أما وقوع المصدر موقع الحال ، فلا ينقاس ، وإنما قالته العرب . وكذلك لا يجوز : جاء زيد بكاء ، تريد باكيا ، وقاس منه ما كان منه نوعا للفعل ، نحو : جاء زيد مشيا أو سرعة ، ومنع المبرد أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال ، فلا يجوز ، نحو : جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا ، فجعله وحيا مصدرا في موضع الحال مما لا ينقاس ، وأن ( يرسل ) في معنى إرسالا الواقع موقع مرسلا ممنوع بنص سيبويه . وقرأ سيبويه نافع وأهل المدينة ( أو يرسل رسولا فيوحي ) بالرفع فيهما ، فخرج على إضمار هو يرسل ، أو على ما يتعلق به ( من وراء ) إذ تقديره : أو يسمع من وراء حجاب ، ( ووحيا ) مصدر في موضع الحال ، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه ، ( أو يرسل ) والتقدير : إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا ، وإسناد التكلم إلى الله بكونه أرسل رسولا مجاز ، كما تقول : نادى الملك في الناس بكذا ، وإنما نادى الريح ، الدائر في الأسواق ، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة .
قال ابن عطية : وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم ، وأن الحالف الرسل ، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنسانا فأرسل إليه ، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه . انتهى .
( إنه علي ) أي : علي عن صفات المخلوقين ، ( حكيم ) : تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة ، يكلم بواسطة وبغير واسطة . ( وكذلك أوحينا ) أي : مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك ، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث : النفث في الروع والمنام ، وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء ، وإرسال رسول إليه ، وهو جبريل . وقيل : كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، ( أوحينا إليك روحا من أمرنا ) . قال : النبوة . وقال ابن عباس : الوحي ; وقال السدي قتادة : رحمة ; وقال الكلبي : كتابا ; وقال الربيع : جبريل ; وقيل : القرآن ; وسمى ما أوحى إليه روحا ؛ لأن به الحياة من الجهل .
وقال : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب ، كما أن العشب ربيع الأرض . مالك بن دينار
( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) : توقيف على عظم المنة ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بها ، وعطف ( ولا الإيمان ) على ( ما الكتاب ) ، وإنما معناه : الإيمان الذي يدركه السمع ؛ لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي .
أما توحيد الله وبراءته عن النقائص ، ومعرفة صفاته العلا ، فجميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عالمون ذلك ، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك ، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحي إليهم . وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ، إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان .
ومن طالع سير الأنبياء من [ ص: 528 ] نشأتهم إلى مبعثهم ، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة ، موحدون لله منذ نشئوا .
قال الله تعالى في حق يحيى - عليه السلام - : ( وآتيناه الحكم صبيا ) . قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث .
وعن أبي العالية : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان .
وقال القاضي : ( ولا الإيمان ) : الفرائض والأحكام . قال : وكان قبل مؤمنا بتوحيد الله ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا .
وقال القشيري : يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع . وقال : هو على حذف مضاف ، أي : ولا أهل الإيمان من الذي يؤمن الحسين بن الفضل أبو طالب أو العباس أو غيرهما . وقال علي بن عيسى : إذ كنت في المهد .
وقيل : ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك . وقيل : أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب ، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم .
( ما الكتاب ) جملة استفهامية مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب بـ ( تدري ) وهي معلقة .
( ولكن جعلناه نورا ) : يحتمل أن يعود إلى قوله : ( روحا ) ، وإلى ( كتاب ) ، وإلى ( الإيمان ) ، وهو أقرب مذكور . وقال ابن عطية : عائد على الكتاب . انتهى .
وقيل : يعود إلى الكتاب والإيمان معا ؛ لأن مقصدهما واحد ، فهو نظير : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) . وقرأ الجمهور : ( لتهدي ) ، مضارع هدى مبنيا للفاعل ; وحوشب : مبنيا للمفعول ، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام : ( اهدنا الصراط المستقيم ) . وقرأ ابن السميقع ( لتهدي ) بضم التاء وكسر الدال ; وعن الجحدري مثلها ، ومثل قراءة حوشب .
( صراط مستقيم ) ، قال علي : هو القرآن ; وقيل : الإسلام .
( ألا إلى الله تصير الأمور ) : أخبر بالمضارع ، والمراد به الديمومة ، كقوله : زيد يعطي ويمنع ، أي : من شأنه ذلك ، ولا يراد به حقيقة المستقبل ، أي : ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل ، وخص ذلك بيوم القيامة ؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئا ، قاله الفراء .