هذه السورة مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) . وقال ابن عطية : بإجماع أهل العلم . ( إنا جعلناه ) ، أي صيرناه ، أو سميناه ، وهو جواب القسم ، وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد ، ونظيره قول أبي تمام :
وثناياك إنها إغريض
وقيل : والكتاب أريد به الكتب المنزلة ، والضمير في جعلناه يعود على القرآن ، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه . وقال : جعلناه ، بمعنى صيرناه ، معدى إلى مفعولين ، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد ، كقوله : ( الزمخشري وجعل الظلمات والنور ) . ( وقرآنا عربيا ) : حال . ولعل : مستعارة لمعنى الإرادة ، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي خلقناه عربيا غير عجمي . أراد أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا : ( لولا فصلت آياته ) . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقا . و ( أم الكتاب ) : اللوح المحفوظ ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب ، وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع بكونه لديه عليا على جميع الكتب ، وعاليا عن وجوه الفساد . حكيما : أي حاكما على سائر الكتب ، أو محكما بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني . قال قتادة وعكرمة والسدي : اللوح المحفوظ : القرآن فيه بأجمعه منسوخ ، ومنه كان جبريل ينزل . وقيل : أم الكتاب : الآيات المحكمات ، لقوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) ، ومعناه : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم . وقرأ الجمهور : في أم ، بضم الهمزة ، والأخوان بكسرها ، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق ، ولم يعزها للأخوان عقلة منه . يقال : ضرب عن كذا ، وأضرب عنه ، إذا أعرض عنه . والذكر ، قال الضحاك وأبو صالح : القرآن ، أي : أفترائى عنكم القرآن . وقولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، إذا أدارها ونحاها ، وقال الشاعر :اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس
تمر الصبا صفحا بساكن ذي الفضا ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة فمن مل منها ذلك الوصل ملت
وقال : المعنى : أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به ؟ وقال ابن عباس الكلبي : أن نترككم هملا بلا أمر ولا نهي ؟ وقال مجاهد أيضا : أن لا نعاقبكم بالتكذيب ؟ وقيل : أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذيبكم ؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبعي ، والسميط بن عمير ، وشميل بن عذرة : بضم الصاد ، والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان ، كالسد والسد . وانتصاب صفحا على أنه مصدر من معنى أفنضرب ، لأن معناه : أفنصفح ؟ أو مصدر في موضع الحال ، أي صافحين ، قالهما الحوفي ، وتبعه أبو البقاء . وقال : وصفحا على وجهين : إما مصدر من صفح عنه إذا أعرض منتصبا على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه . وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانبا ؟ فينصب على الظرف ، كما تقول : ضعه جانبا ، وامش جانبا . وتعضده قراءة من قرأ : صفحا بالضم . وفي هذه القراءة وجه آخر ، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أي صافحين معرضين . وقال الزمخشري ابن عطية : صفحا ، انتصابه كانتصاب ( صنع الله ) . انتهى . يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، فيكون العامل فيه محذوفا ، ولا يظهر هذا الذي قاله ، فليس انتصابه انتصاب " صنع الله " . وقرأ نافع والأخوان : بكسر الهمزة ، وإسرافهم كان متحققا . فكيف دخلت عليه " إن " الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق ، أو على المتحقق الذي انبهم زمانه ؟ قال : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه ، استجهالا له . وقرأ الجمهور : أن بفتح الهمزة ، أي من أجل أن كنتم . قال الشاعر : الزمخشري
أتجزع أن بان الخليط المودع
وقرأ : إذ كنتم ، بذال مكان النون ، لما ذكر خطابا زيد بن علي لقريش ، ( أفنضرب عنكم الذكر ) ؟ وكان هذا الإنكار دليلا على تكذيبهم للرسول ، وإنكارا لما جاء به . آنسه تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة من استهزائهم بالرسل ، وأنه تعالى أهلك من كان أشد بطشا من قريش ، أي أكثر عددا وعددا وجلدا . ( ومضى مثل الأولين ) : أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة . قال معناه قتادة : وهي العقوبة التي سارت سير المثل ، وقيل : مثل الأولين في الكفر والتكذيب ، وقريش سلكت مسلكها ، وكان مقبلا عليهم بالخطاب في قوله : ( أفنضرب عنكم ) ؟ فأعرض عنهم إلى إخبار الغائب في قوله : ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ) . ( ولئن سألتهم ) : احتجاج على قريش بما يوجب التناقض ، وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله ، ثم هم يتخذون أصناما آلهة من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم . قال ابن عطية : ومقتضى الجواب أن يقولوا خلقهن الله ، فلما ذكر تعالى المعنى ، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدد من أوصافه الذي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش . انتهى . وقال : لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه ، وليسندنه إليه . انتهى . والظاهر أن : ( الزمخشري خلقهن العزيز العليم ) نفس المحكي من كلامهم ، ولا يدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله ، أن لا يقولوا في سؤال آخر : ( خلقهن العزيز العليم ) .و ( الذي جعل لكم ) : من كلام الله ، خطابا لهم بتذكير نعمه السابقة . وكرر الفعل في الجواب في قوله : ( خلقهن العزيز العليم ) ، مبالغة في التوكيد . وفي غير ما سؤال ، اقتصروا على ذكر اسم الله ، إذ هو العلم الجامع للصفات العلا ، وجاء الجواب مطابقا للسؤال من حيث [ ص: 7 ] المعنى ، لا من حيث اللفظ ، لأن من مبتدأ . فلو طابق في اللفظ ، كان بالاسم مبتدأ ، ولم يكن بالفعل . ( لعلكم تهتدون ) : أي إلى مقاصدكم في السفر ، أو تهتدون بالنظر والاعتبار . بقدر : أي بقضاء وحتم في الأزل ، أو بكفاية ، لا كثيرا فيفسد ، ولا قليلا فلا يجدي . ( فأنشرنا ) : أحيينا به . ( بلدة ميتا ) : ذكر على معنى القطر ، و " بلدة " اسم جنس . وقرأ أبو جعفر وعيسى : ميتا بالتشديد . وقرأ الجمهور : تخرجون : مبنيا للمفعول ، وابن وثاب ، وعبد الله بن جبير المصبح ، وعيسى ، وابن عامر ، والأخوان : مبنيا للفاعل . و ( الأزواج ) : الأنواع من كل شيء . قيل : وكل ما سوى الله فهو زوج ، كفوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وقدام ، وخلف ، وماض ، ومستقبل ، وذوات ، وصفات ، وصيف ، وشتاء ، وربيع ، وخريف ، وكونها أزواجا تدل على أنها ممكنة الوجود ، ويدل على أن محدثها فرد ، وهو الله المنزه عن الضد والمقابل والمعارض . انتهى .
( والأنعام ) : المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا الإبل . ما : موصولة والعائد محذوف ، أي ما يركبونه . وركب بالنسبة للعلل ، ويتعدى بنفسه على المتعدي بوساطة في ، إذ التقدير ما يركبونه . واللام في لتستووا : الظاهر أنها لام كي . وقال الحوفي : ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا . وقال ابن عطية : لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه . فالفصيح المستعمل : اضرب ، وقيل : لتضرب ، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة ، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة ، فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب . وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافكم ، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى ، وقول الشاعر :
لتقم أنت يا ابن خير قريش فتقضي حوائج المسلمينا
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
زوجها من بنات الأوس مجزئة
ولما تقدم أنهم معترفون بأنه تعالى هو خالق العالم ، أنكر عليهم جعلهم لله جزءا ، وقد اعترفوا بأنه هو الخالق ، فكيف وصفوه بصفة المخلوق ؟ ( إن الإنسان لكفور ) نعمة خالقه . ( مبين ) : مظهر لجحوده . والمراد بالإنسان : من جعل لله جزءا ، وغيرهم من الكفرة . قال ابن عطية : و مبين في هذا الموضع غير متعد . انتهى . وليس يتعين ما ذكر ، بل يجوز أن يكون معناه ظاهرا لكفران النعم ومظهرا لجحوده ، كما قلنا . ( أم اتخذ مما يخلق بنات ) ؟ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم ؟ كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه حين أنتم تسود وجوهكم عند التبشير بهن وتئدونهن ؟ ( وأصفاكم ) : جعل لكم صفوة ما هو محبوب ، وذلك البنون . وقوله : ( مما يخلق ) ، تنبيه على استحالة الولد ، ذكرا كان أو أنثى ، وإن فرض اتخاذ الولد ، فكيف يختار له الأدنى ويخصكم بالأعلى ؟ وقدم البنات ، لأنه المنكر عليهم لنسبتهن إلى الله ، وعرف البنين دون البنات تشريفا لهم على البنات . ( وإذا بشر أحدهم ) : تقدم تفسير نظيرها في سورة النحل . ( أومن ينشأ في الحلية ) : أي ينتقل في عمره حالا فحالا في الحلية ، وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإناث دون الفحول ، لتزينهن بذلك لأزواجهن ، وهو إن خاصم ، لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل ، أظهر بهذا لحقوقهن وشفوف البنين عليهن . وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كالمرأة ، وأن يكون مخشوشنا . والفحل من الرجال أبى أن يكون متصفا بصفات النساء ، والظاهر أنه أراد بمن ينشأ في الحلية : النساء . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ويدل عليه قوله : ( وهو في الخصام غير مبين ) : أي لا يظهر حجة ، ولا يقيم دليلا ، ولا يكشف عما في نفسه كشفا واضحا . ويقال : قلما تجد امرأة لا تفسد الكلام ، وتخلط المعاني ، حتى ذكر عن بعض الناس أنه قال : إذا دخلنا على فلانة ، لا نخرج حتى نعلم أن عقلها عقل امرأة . وقال ابن زيد : المراد بمن ينشأ في الحلية : الأصنام ، وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ، ويجعلون الحلي على كثير منها ، ويبعد هذا القول قوله : ( وهو في الخصام غير مبين ) ، إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإنه كقوله :
على لاحب لا يهتدي بمناره
أي : لا منار له فيهتدي به . ومن : في موضع نصب ، أي وجعلوا من ينشأ . ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء ، أي من ينشأ جعلوه لله . وقرأ الجمهور : ينشأ مبنيا للفاعل ، والجحدري في قول : مبنيا للمفعول مخففا ، وابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري : في رواية ، والأخوان وحفص والمفضل وأبان وابن مقسم وهارون ، عن أبي عمرو : مبنيا للمفعول مشددا ، والحسن : في رواية يناشأ على وزن يفاعل مبنيا للمفعول ، والمناشأة بمعنى الإنشاء ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء . و ( في الخصام ) : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين ، أي وهو لا يبين في الخصام . ومن أجاز أما زيدا غير ضارب بإعمال المضاف إليه في " غير " أجاز أن يتعلق بمبين ، أجرى " غير " مجرى لا . وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه ، وقد ذكر ذلك في النحو .