( إنا مؤمنون ) : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب كشف العذاب أو لم يكشف . ( أنى لهم الذكرى ) : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم ؟ وأدخل في باب " الادكار من كشف الدخان " ؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون . وقرأ : معلم ، بكسر اللام . ( زر بن حبيش إنا كاشفوا العذاب قليلا ) : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم . ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر . وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهرا ، وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون . فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوما ، فحين [ ص: 35 ] يكشفه عنهم يرتدون . ويوم البطشة الكبرى على هذا هو يوم القيامة ، كقوله : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) . وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة . وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد . وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بـ ننتقم الدال عليه " منتقمون " ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بـ " منتقمون " . ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها . وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء ، والحسن ، وأبو جعفر : بضمها ، والحسن أيضا ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم . و " البطشة " على هذه القراءة ليس منصوبا بـ نبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون " البطشة " في معنى الإبطاشة ، فينتصب بـ نبطش .
( ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ) : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله . وقرئ : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير متعلقة ( وجاءهم رسول كريم ) : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء ، أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو سليمان ، أو كريم حسن الخلق ، قاله مقاتل . ( أن أدوا إلي عباد الله ) يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول ، وهو رسول كريم ، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع ، فإنها توصل بالأمر . قال : أن أدوا إلي الطاعة يا عباد الله : أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان . وقال ابن عباس مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، كما قال : فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . فعلى قول : عباد الله : منادى ، ومفعول أدوا محذوف ، وعلى قول ابن عباس مجاهد ومن ذكر معه : عباد الله : مفعول أدوا . ( إني لكم رسول أمين ) : أي غير متهم ، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته .
( وأن لا تعلوا على الله ) : أي لا تستكبروا على عبادة الله ، قاله . قال يحيى بن سلام : لا تعظموا على الله . قيل : والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر والاستكبار ترفع المحتقر ، ذكره ابن جريج الماوردي ، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة . ( إني آتيكم بسلطان مبين ) : أي بحجة واضحة في نفسها وموضحة صدق دعواي . وقرأ الجمهور : إني ، بكسر الهمزة ، على سبيل الإخبار ، وقرأت فرقة : بفتح الهمزة . والمعنى : لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم ، فهذا توبيخ لهم ، كما تقول : أتغضب إن قال لك الحق ؟ ( وإني عذت ) : أي استجرت ( بربي وربكم أن ترجمون ) : كانوا قد توعدوه بالقتل ، فاستعاذ من ذلك . وقرئ : عدت ، بالإدغام . قال قتادة وغيره : الرجم هنا بالحجارة . وقال ، ابن عباس وأبو صالح : بالشتم ، وقول قتادة أظهر ، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب ، وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله : ( فلا يصلون إليكما ) . ( وإن لم تؤمنوا لي ) أي تصدقوا ( فاعتزلون ) أي كونوا بمعزل وهذه مشاركة حسنة ، ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) ، ( أن هؤلاء ) : لفظ تحقير لهم . وقرأ الجمهور : أن هؤلاء ، بفتح الهمزة ، أي بأن هؤلاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والحسن في رواية ، : بكسرها . ( وزيد بن علي فأسر بعبادي ) : في الكلام حذف ، أي فانتقم منهم ، فقال له الله : أسر بعبادي ، وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط . وقال : فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي ، وأن يكون جوابا لشرط محذوف ، كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول ، فأسر بعبادي . انتهى . وكثيرا ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه ، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح ، كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو ، على خلاف في ذلك . ( الزمخشري إنكم متبعون ) : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، فتنجون ويغرق المتبعون . ( واترك البحر رهوا ) : قال : ساكنا كما أجراه . وقال ابن عباس مجاهد وعكرمة : يبسا من قوله : ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) . وقال الضحاك : دمثا لينا . [ ص: 36 ] وقال عكرمة : جددا . وقال ابن زيد : سهلا . وقال مجاهد أيضا : منفردا . قال قتادة : أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ، لما قطعه ، حتى يلتئم ، وخاف أن يتبعه فرعون ، فقيل : لمه هذا ؟ ( إنهم جند مغرقون ) : أي فيه ، لأنهم إذا رأوه ساكنا على حالته حين دخل فيه موسى وبنو إسرائيل ، أو مفتوحا طريقا يبسا ، دخلوا فيه ، فيطبقه الله عليهم .
( كم تركوا ) : أي كثيرا تركوا . ( من جنات وعيون ) : تقدم تفسيرهما في الشعراء . وقرأ الجمهور : ( ومقام ) ، بفتح الميم . قال ، ابن عباس ومجاهد ، : أراد المقام . وقرأ وابن جبير ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع : في رواية خارجة بضمها . قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها . ( ونعمة ) ، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة . وقرأ أبو رجاء : ( ونعمة ) ، بالنصب ، عطفا على كم ( كانوا فيها فاكهين ) . قرأ الجمهور : بألف ، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ، كلابن ، وتامر ، وأبو رجاء ، والحسن : بغير ألف . والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ ، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها . وقال الجوهري : فكه الرجل ، بالكسر ، فهو فكه إذا كان مزاحا ، والفكه أيضا الأشر . وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك . وقال : والمعنى : الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك ، والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : الكاف في موضع نصب ، أي يفعل فعلا كذلك ، لمن يريد إهلاكه . وقال الزجاج الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني . وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكا ، وانتقمنا انتقاما كذلك . وقال : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، ( الزمخشري وأورثناها قوما آخرين ) ليسوا منهم ، وهم بنو إسرائيل . كانوا مستعبدين في يد القبط ، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم . وقال قتادة ، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ، ولا ملكوها قط ، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشأم . انتهى . ولا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، وكلام الله صدق . قال تعالى في سورة الشعراء : ( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) وقيل : قوما آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل . ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) : استعارة لتحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء . ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . وقال زيد بن مفرغ :
الريح تبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه
وقال جرير :فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمر
بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه خاشع متضائل
لما أتى الزهو تواضعت سور المدينة والجبال الخشع