هذه السورة مدنية عند الأكثر . وقال الضحاك ، وابن جبير ، والسدي : مكية . وقال ابن عطية : مدنية بإجماع ، وليس كما قال ، وعن ابن عباس ، وقتادة : أنها مدنية ، إلا آية منها نزلت بعد حجه ، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي : ( وكأين من قرية ) الآية . ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جدا .
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) : أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه ، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عباس : وهم المطعمون يوم بدر . وقال مقاتل : كانوا اثني [ ص: 73 ] عشر رجلا من أهل الشرك ، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم أهل الكتاب ، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام . وقال الضحاك : ( عن سبيل الله ) : عن بيت الله ، يمنع قاصديه ، وهو عام في كل من كفر وصد . ( أضل أعمالهم ) : أي أتلفها ، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع ، بل ضرر محض . وقيل : نزلت هذه الآية ببدر ، وأن الإشارة بقوله : ( أضل أعمالهم ) إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر . وقيل : المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية ، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك ، واللفظ يعم جميع ذلك .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) : هم الأنصار . وقال مقاتل : ناس من قريش . وقيل : مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : هو عام ، وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين ، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن . ( وآمنوا بما نزل على محمد ) : تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به ، تعظيم لشأن الرسول ، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به . وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي : ( وهو الحق من ربهم ) . وقيل : ( وهو الحق ) : ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ . وقرأ الجمهور : نزل مبنيا للمفعول ، وزيد بن علي ، وابن مقسم : نزل مبنيا للفاعل ، والأعمش : أنزل معدى بالهمزة مبنيا للمفعول . وقرئ : نزل ثلاثيا . ( كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) : أي حالهم ، قاله قتادة : وشأنهم ، قاله مجاهد : وأمرهم ، قاله ابن عباس . وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر ، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب . فإذا صلح ذلك ، فقد صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع .
( ذلك ) : إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم ، وبالمؤمنين من تكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم . وذلك مبتدأ وما بعده الخبر ، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك ، أي كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوبا . انتهى . ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار . والباطل : ما لا ينتفع به . وقال مجاهد : الشيطان وكل ما يأمر به ، والحق : هو الرسول والشرع ، وهذا الكلام تسميه علماء البيان التفسير . ( كذلك يضرب ) : قال ابن عطية : الإشارة إلى أتباع المذكورين من الفريقين ، أي كما اتبعوا هذين السبيلين ، كذلك يبين أمر كل فرقة ، ويجعل لها ضربها من القول وصفها ، وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع . وقال الزمخشري : كذلك ، أي مثل ذلك الضرب . ( يضرب الله للناس أمثالهم ) لأجل الناس ليعتبروا بهم . فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين .
( فإذا لقيتم الذين كفروا ) : أي في أي زمان لقيتموهم ، فاقتلوهم . وفي قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، أي في أي مكان ، فعم في الزمان وفي المكان . وقال الزمخشري : لقيتم ، من اللقاء ، وهو الحرب . انتهى . ( فضرب الرقاب ) : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر ، وهم مطرد فيه ، وهو منصوب بفعل محذوف فيه ، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل : هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر ، وقيل : هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه ، ومثاله : ضربا زيدا ، كما قال الشاعر :
على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب
وهذا هو الصحيح ، ويدل على ذلك قوله : ( فضرب الرقاب ) ، وهو إضافة المصدر للمفعول ، ولو لم يكن معمولا له ، ما جازت إضافته إليه . " وضرب الرقاب " عبارة عن القتل ، ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، عبر بذلك عن القتل ، ولا يراد خصوصية الرقاب ، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن [ ص: 74 ] تضرب الرقاب ، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء . ويقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه ، إذا قتله ، كما عبر بقوله : ( بما كسبت أيديكم ) عن سائر الأفعال ، لما كان أكثر الكسب منسوبا إلى الأيدي . قال الزمخشري : وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه ، وأوجه أعضائه . وقد زاد في هذه في قوله : ( فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . انتهى . ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين ، وأنهم من الكفار بحيث هم متمسكون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم . ( حتى إذا أثخنتموهم ) : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى ، ( فإما منا ) بالإطلاق ، ( وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) : أي أثقالها وآلاتها . ومنه قول عمرو بن معدي كرب :وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . فذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد ، إلى أنها منسوخة بقوله : ( فاقتلوا المشركين ) الآية ، وأن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم . وروي نحوه عن أبي بكر الصديق ، وذهب ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، والحسن ، إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك ، والمن والفداء ثابت . وقال الحسن : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل ، فخصصوا من المشركين أهل الكتاب ، وخصص من الكفار عبدة الأوثان . وأما مذهب الأئمة اليوم : فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق ، ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن ، ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة ، وفي ضرب الجزية . والظاهر أن قوله : ( وإما فداء ) ، يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين . وقال الحسن : لا يفدى بالمال . وقرأ السلمي : فشدوا ، بكسر الشين ، والجمهور : بالضم . والوثاق : بفتح الواو ، وفيه لغة الوثاق ، وهو اسم لما يوثق به ، وانتصب منا وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما ، أي فإما تمنون منا ، وإما تفدون فداء ، وهو فعل يجب إضماره ، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة ، فعامله مما يجب إضماره ، ونحوه قول الشاعر :
[ ص: 75 ]
لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
والظاهر أن قوله : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) غاية لقوله : ( فشدوا الوثاق ) ، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان . فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين ، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة ، فيجوز ، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها . إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك ، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار ، ويجوز أن يكون المغيا محذوفا يدل عليه المعنى ، التقدير : الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها ، أي لا يبقى شوكة لهم . أو كما قال ابن عطية : إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة ، أي اصنعوا ذلك دائما . وقال الزمخشري : فإن قلت : حتى بم تعلقت ؟ قلت : لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد ، أو بالمن والفداء . فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله : أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى ابن مريم ، وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد . فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، إلى أن تناول المن والفداء ، يعني : بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا ، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة ، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين . وقد رواه الطحاوي مذهبا لأبي حنيفة ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره ، خيفة أن يعودوا حدبا للمسلمين . ( ذلك ) أي الأمر ذلك إذا فعلوا .
( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ) : أي لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك ، من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق ، أو موت جارف . ( ولكن ليبلو ) : أي ولكن : أمركم بالقتال ليبلو بعضكم ، وهم المؤمنون ، أي يختبرهم ببعض ، وهم الكافرون ، بأن يجاهدوا ويصبروا ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب . وقرأ الجمهور : قاتلوا ، بفتح القاف والتاء ، بغير ألف ، وقتادة ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحفص : قتلوا مبنيا للمفعول ، والتاء خفيفة ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، والجحدري أيضا : كذلك . وقرأ علي : فلن يضل . مبنيا للمفعول ، أعمالهم . رفع . وقرئ : يضل ، بفتح الياء ، من ضل ، أعمالهم : رفع . ( سيهديهم ) : أي إلى طريق الجنة . وقال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون ، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا ، لا يستبدلوا عليها . وروى عياض عن أبي عمرو : ويدخلهم . و " يوم يجمعكم ليوم الجمع " . و " إنما نطعمكم . بسكون لام الكلمة . ( عرفها لهم ) عن مقاتل : أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله . وقال أبو سعيد الخدري ، ومجاهد ، وقتادة : معناه بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها . وفي [ ص: 76 ] الحديث : لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا . وقيل : سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه ، وهذا نحو من التعريف . يقال : عرف الدار وأرفها : أي حددها ، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها . والعرف والأرف : الحدود . وقيل : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها . وقال مورج وغيره : طيبها ، مأخوذ من العرف ، ومنه : طعام معرف : أي مطيب ، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل .
( إن تنصروا الله ) : أي دينه ، ( ينصركم ) : أي على أعدائكم ، بخلق القوة فيكم ، وغير ذلك من المعارف . ( ويثبت أقدامكم ) : أي في مواطن الحرب ، أو على محجة الإسلام . وقرأ الجمهور : ( ويثبت ) : مشددا ، والمفضل عن عاصم : مخففا . ( فتعسا لهم ) : قال ابن عباس : بعدا لهم ، وابن جريج ، والسدي : حزنا لهم ، والحسن : شتما ، وابن زيد : شقاء ، والضحاك : رغما ، وحكى النقاش : قبحا . ( والذين كفروا ) : مبتدأ ، والفاء داخلة في خبر المبتدأ وتقديره : فتعسهم الله تعسا . فتعسا : منصوب بفعل مضمر ، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله : ( وأضل أعمالهم ) . ويجوز أن يكون الذين منصوبا على إضمار فعل يفسره قوله : ( فتعسا لهم ) ، كما تقول : زيدا جدعا له . وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : وأضل أعمالهم ؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعسا ، لأن المعنى : فقال تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم ، وتعسا لهم نقيض لعى له . انتهى . وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى ، لأن فيه دلالة على ما حذف . وقال ابن عباس : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار . انتهى . وفي قوله : ( فتعسا لهم ) : أي هلاكا بأداة تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ جعل لهم التثبيت ، وللكفار الهلاك والعثرة .
( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله ) : يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد ، وذكر البعث والفرائض والحدود ، وغير ذلك مما تضمنه القرآن . ( فأحبط أعمالهم ) : أي جعله من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها . ( دمر الله عليهم ) : أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها . تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمر والهلكة ، لأن التدمير يدل عليها ، أو السنة ، لقوله عز وجل : ( سنة الله في الذين خلوا ) . والوجه الأول هو الراجح ، لأن العاقبة منطوق بها ، فعاد الضمير على الملفوظ به ، وما بعده مقول القول . ( ذلك بأن ) : ابتداء وخبر ، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة ، وإلى الهلاك ، كما قال : ( وللكافرين أمثالها ) ، قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب أن الله مولاهم أي ناصرهم ومؤيدهم ، وأن الكافرين لا ناصر لهم ، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا عبادة من ينفع ويضر ، وهو الله تعالى .
قال قتادة : نزلت هذه الآية يوم أحد ، ومنها انتزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رده على أبي سفيان حين قال : " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " ، حين قال المشركون : إن لنا عزى ، ولا عزى لكم .


