( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما ) .
لما ذكر تعالى حال من تخلف عن [ ص: 96 ] السفر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه . والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان ، وكانوا فيما روي ألفا وخمسمائة وعشرين . وقال : وثلاثمائة . ابن أبي أوفى
وأصل هذه البيعة الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمرا ، لا يريد قتالا . فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأراد بعث عمر . فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم . فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته . وكان عثمان بن عفان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه . فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزل
وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم . فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق . وقال : أول من بايع الشعبي أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي . والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت يحتمل أن يكون معمولا ليبايعونك ، أو حالا من المفعول ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان تحتها جالسا في أصلها . قال : وكنت قائما على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره . بايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : " عبد الله بن المغفل " . وكانت الشجرة سمرة . قال أنتم اليوم خير أهل الأرض بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة . قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها . وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة . وفي الحديث عنه : . " لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان "
( فعلم ما في قلوبهم ) ، قال قتادة ، : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا . وقال وابن جريج الفراء : من الصدق والوفاء . وقال ، الطبري ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه . وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره ، وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب . والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم . وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، ( فأنزل السكينة عليهم ) حتى بايعوا . قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم . انتهى .
( وأثابهم فتحا قريبا ) قال قتادة ، : فتح وابن أبي ليلى خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة . وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمنا طويلا . وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب . وقرأ الحسن ونوح القارئ : وآتاهم ، أي أعطاهم ، والجمهور : وأثابهم من الثواب . ( ومغانم كثيرة ) : أي مغانم خيبر ، وكانت أرضا : ذات عقار وأموال ، فقسمها عليهم . وقيل : مغانم هجر . وقيل : مغانم فارس والروم . وقرأ الجمهور : يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم ، وما قبله من ضمير الغيبة . وقرأ ، الأعمش وطلحة ، ورويس عن يعقوب ، ودلبة عن يونس عن ، ورش وأبو دحية ، وسقلاب عن نافع ، والأنطاكي عن أبي جعفر : بالتاء على [ ص: 97 ] الخطاب . كما جاء بعد ( وعدكم الله مغانم كثيرة ) بالخطاب . وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه ، وتكون إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين .
ولقد اتسع نطاق الإسلام ، وفتح المسلمون فتوحا لا تحصى ، وغنموا مغانم لا تعد ، وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في بلاد الهند ، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا . وقدم علينا حاجا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا ، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه . وقيل : الخطاب لأهل البيعة ، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة . وقال وابنه : المغانم الكثيرة مغانم زيد بن أسلم خيبر ، ( فعجل لكم هذه ) : الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح ، قاله ابن عباس وابنه . وقال وزيد بن أسلم مجاهد : مغانم خيبر .
( وكف أيدي الناس عنكم ) : أي أهل مكة بالصلح . وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهم : إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر ، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم ، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين . وقال أيضا : ابن عباس أسد وغطفان حلفاء خيبر . وقال : كف الطبري اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية وإلى خيبر . ( ولتكون ) : أي هذه الكفة آية للمؤمنين ، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء حق ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكة ، فيكون الضمير في ولتكون عائدا على هذه ، وهي مغانم خيبر ، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم ، أي ليشكروه ولتكون ، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون ، أو يتأخر ، أو يقدر ما يتعلق به متأخرا ، أي فعل ذلك . ( ويهديكم صراطا مستقيما ) : أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه . وقيل : بصيرة وإتقانا .
( وأخرى لم تقدروا عليها ) ، قال ، ابن عباس والحسن ، ومقاتل : بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون . وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن إسحاق : خيبر . وقال قتادة ، والحسن : مكة ، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد . وفي قوله : ( لم تقدروا عليها ) دلالة على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال ، كما كان في مكة . وقال : هي مغانم الزمخشري هوازن في غزوة حنين . وقال : ( لم تقدروا عليها ) ، لما كان فيها من الجولة ، وجوز في : ( الزمخشري وأخرى ) ، أن تكون مجرورة بإضمار رب ، وهذا فيه غرابة ، لأن رب لم تأت في القرآن جارة ، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب ، فكيف يؤتى بها مضمرة ؟ وإنما يظهر أن ( وأخرى ) مرفوع بالابتداء ، فقد وصفت بالجملة بعدها ، وقد أحاط هو الخبر . ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى ( قد أحاط الله بها ) : أي وقضى الله أخرى . وقد ذكر هذين الوجهين ومعنى ( الزمخشري قد أحاط الله بها ) بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها .
( ولو قاتلكم الذين كفروا ) : هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى : ( وكف أيدي الناس عنكم ) ، أهم مشركو مكة ، أو ناصرو أهل خيبر ، أو اليهود ؟ ( لولوا الأدبار ) : أي لغلبوا وانهزموا . ( سنة الله ) : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله عليه أنبياءه سنة ، وهو قوله : ( لأغلبن أنا ورسلي ) . ( وهو الذي كف أيديهم ) : أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة ، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة . وروي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع ، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما أحس بهم المسلمون ، بعث عليه الصلاة والسلام عكرمة بن أبي جهل خالد [ ص: 98 ] بن الوليد ، وسماه حينئذ سيف الله ، في جملة من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة ، وأسروا منهم جملة ، وسيقوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فمن عليهم وأطلقهم . وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معسكر ، وهو ببطن مكة . وعن أنس : هبط ثمانون رجلا من أهل مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته ، فأخذناهم فاستحياهم . وفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم ، فأخذ الله أبصارهم ، فقال لهم : " هل جئتم في عهد أحد ؟ وهل جعل لكم أحد أمانا " ؟ قالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم عبد الله بن معقل . وقال حديث كان يعني هذا الكف يوم الفتح ، وبه استشهد الزمخشري أبو حنيفة ، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية ، لما روي أن خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هزمه وأدخله حيطان عكرمة بن أبي جهل مكة . وعن : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . انتهى . وقرأ الجمهور : بما تعملون ، على الخطاب ، ابن عباس وأبو عمرو : بالياء ، وهو تهديد للكفار .
( هم الذين كفروا ) : يعني أهل مكة . قال ابن خالويه : يقال الهدي والهدي والهداء ، ثلاث لغات . انتهى . وقرأ الجمهور : الهدي ، بسكون الدال ، وهي لغة قريش ، وابن هرمز ، والحسن ، وعصمة عن عاصم ، واللؤلؤي ، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في صدوكم ، ومعكوفا : حال ، أي محبوسا . عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها . وأنكر أبو علي تعدية عكف ، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما . وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم ، أو من جهة المسلمين لترددهم ونظرهم في أمرهم . وقرأ الجعفي ، عن أبي عمرو : والهدي . بالجر معطوفا على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي . وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة ، قاله مقاتل . وقيل : بسبعين ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت البدنة عن عشرة ، قاله المسور بن مخرمة وأبي بن الحكم .
( أن يبلغ محله ) ، قال : الحرم ، وبه استدل الشافعي أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم ، لا حيث أحصر . وقال الفراء : حيث يحل نحره ، و ( أن يبلغ ) : يحتمل أن يتعلق بالصد ، أي وصدوا الهدي ، وذلك على أن يكون بدل اشتمال ، أي وصدوا بلوغ الهدي محله ، أو على أنه مفعول من أجله ، أي كراهة أن يبلغ محله . ويحتمل أن يتعلق بمعكوفا ، أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله ، فيكون مفعولا من أجله ، ويكون الحبس من المسلمين . أو محبوسا عن أن يبلغ محله ، فيكون الحبس من المشركين ، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين غير متميزين عنهم ، ولا معروفي الأماكن ، فقال تعالى : ولولا كراهة أن يهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، ما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه . قال : ويجوز أن يكون : ( الزمخشري لو تزيلوا ) ، كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون : ( لعذبنا ) ، هو الجواب . انتهى . وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح ، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية . فالمعنى في الأولى : ولولا وطء قوم مؤمنين ، والمعنى في الثانية : لو تميزوا من الكفار ، وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة . و ( أن تطئوهم ) : بدل اشتمال من رجال وما بعده . وقيل : بدل من الضمير في ( تعلموهم ) ، أي لم تعلموا وطأتهم ، أي أنه وطء مؤمنين . وهذا فيه بعد . والوطء : الدوس ، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره . قال الشاعر :
ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد ثابت الهرم
مضر " . و ( وفي الحديث : " اللهم اشدد وطأتك على لم تعلموهم ) : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر ، والمعنى : [ ص: 99 ] لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون . وقال ابن زيد : المعرة : المأثم . وقال : الدية . وقال ابن إسحاق ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب . وقال : هي الكفارة . وقال القاضي الطبري : المعرة : أن يعنفهم الكفار ، ويقولون قتلوا أهل دينهم . وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن . ولفق منذر بن سعيد من هذه الأقوال سؤالا وجوابا على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : ( فإن قلت ) : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون ؟ ( قلت ) : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير . انتهى . الزمخشريبغير علم ) : إخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدي حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحدا لكان من غير قصد ، كقول النملة عن جند سليمان : ( وهم لا يشعرون ) . وبغير علم متعلق بأن تطئوهم . وقيل : متعلق بقوله : ( فتصيبكم منهم معرة ) من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم . وقرأ الجمهور : لو تزيلوا ، وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، وابن عون : لو تزايلوا ، على وزن تفاعلوا ، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى ، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب . ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) : وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو ، ومعنى تزيلوا : لو ذهبوا عن مكة ، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم ، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار ، أي لو افترق بعضهم من بعض . ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لـ اذكر مضمرة . والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس :
إلا أنني منهم وعرضي عرضهم كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما
وقال : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو الزهري . وقال سهيل بن عمرو ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا غيرها . وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبدا ، وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء معظما للبيت لا يريد حربا ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
( وكان الله بكل شيء عليما ) ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سببا لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام ، وكانوا عام الحديبية ألفا وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف .
وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن . باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى ، وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة ، وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى . وبين الفعل جعل وأنزل ، فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها . والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله تعالى . والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني زيد فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل . ولما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أجاب أولا إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا ( محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباسم الله ) ، قال تعالى : ( على رسوله ) . ولما سكن هو - صلى الله عليه وسلم - للصلح سكن المؤمنون ، فقال : ( وعلى المؤمنين ) . ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن .