سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبي ابن سلول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو متوجه إلى زيارة في موضعه ، وتعصب بعضهم سعد بن عبادة لعبد الله ، ورد على عبد الله بن رواحة ابن أبي ، فتجالد الحيان ، قيل : بالحديد ، وقيل : بالجريد والنعال والأيدي ، فنزلت ، فقرأها عليهم ، [ ص: 112 ] فاصطلحوا . وقال : وكانت السدي بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ، وكان لها زوج من غيرهم ، فوقع بينهم شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه ، فوقع قتال ، فنزلت الآية بسببه . وقرأ الجمهور : ( اقتتلوا ) جمعا ، حملا على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس . وقرأ : اقتتلتا . على لفظ التثنية ، ابن أبي عبلة وزيد بن علي : اقتتلتا . على التثنية ، مراعى بالطائفتين . الفريقان اقتتلوا ، وكل واحد من الطائفتين باغ ، فالواجب السعي بينهما بالصلح ، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا ، أو لشبهة دخلت عليهما ، وكل منهما يعتقد أنه على الحق ، فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، فإن لجا ، فكالباغيتين ، ( ، وعبيد بن عمير فإن بغت إحداهما ) ، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي . ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها ، وإلى الإصلاح إن فاءت . والبغي هنا : طلب العلو بغير الحق ، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم . وقرأ الجمهور : ( حتى تفيء ) ، مضارع فاء بفتح الهمزة ، : حتى تفي ، بغير همزة وفتح الياء ، وهذا شاذ ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز ، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفى شذوذا . والزهري
( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) : أي إخوة في الدين . وفي الحديث : " " . وقرأ الجمهور : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله بين أخويكم ) مثنى ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ، فإذا كان الإصلاح لازما بين اثنين ، فهو ألزم بين أكثر من اثنين . وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج . وقرأ ، زيد بن ثابت ، وابن مسعود والحسن : بخلاف عنه ، والجحدري ، ، وثابت البناني ، وحماد بن سلمة : بين إخوانكم جمعا ، بالألف والنون ، وابن سيرين والحسن أيضا ، وابن عامر في رواية ، ، وزيد بن علي ويعقوب : بين إخوتكم جمعا ، على وزن غلمة . وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، ويغلب الإخوان في الصداقة ، والإخوة في النسب ، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر ، ومنه ( إنما المؤمنون إخوة ) ، وقوله : ( أو بيوت إخوانكم ) .
( ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ) : هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمة ، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها . وقيل : نزلت بسبب ، كان يمشي بالنميمة ، وقد أسلم ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاهم ، فنزلت . وقوم مرادف رجال ، كما قال تعالى : ( عكرمة بن أبي جهل الرجال قوامون على النساء ) ، ولذلك قابله هنا بقوله : ( ولا نساء من نساء ) ، وفي قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وقال : وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جمع صائم وزائر . انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب الزمخشري أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب . وقال أيضا : وأما قولهم في قوم الزمخشري فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن . انتهى . وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ليس مختصا بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد ممن يتناوله عموم البدل . فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناسا فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة . ( عسى أن يكونوا ) : أي المسخور منهم ( خيرا منهم ) : أي من الساخرين بهم . وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى . وعن ابن [ ص: 113 ] مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلبا .
( ولا نساء من نساء ) : روي أن عائشة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا وحفصة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت أم سلمة عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب . وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من الهلالية ، وكانت قصيرة . وعن زينب بنت خزيمة أنس : كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيرن بالقصر . وقالت أم سلمة صفية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد ؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز .
( ولا تلمزوا أنفسكم ) : ضم الميم في : تلمزوا . الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو . وقال أبو عمرو : هي عربية ، والجمهور بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى . ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه . ففي الحديث : " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " . وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه .
( ولا تنابزوا بالألقاب ) : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهيا ، وأما إذا كان حسنا ، فلا ينهى عنه . وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وفي الحديث : " كنوا أولادكم " . قال عطاء : مخافة الألقاب . وعن عمر : " أشيعوا الكنى فإنها سنة " . انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد . فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيرا ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي :
يا أهل أندلس ما عندكم أدب بالمشرق الأدب النفاح بالطيب
يدعى الشباب شيوخا في مجالسهم والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه . قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ، ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى . قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك . وتلاحى ابن أبي حدرد ، فقال له وكعب بن مالك مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب .
( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان . انتهى . وقال نحو قول الزمخشري الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزعة اعتزالية . وقال : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع [ ص: 114 ] للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق . ( الزمخشري ومن لم يتب ) : أي عن هذه الأشياء ( فأولئك هم الظالمون ) : تشديد وحكم بظلم من لم يتب .
( اجتنبوا كثيرا من الظن ) : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد . فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء . فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . وقال : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز . تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلا عن واو . وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى . وقيل : الإثم متعلق بتكلم الظان . أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الزمخشري الحزم سوء الظن " . وقرأ الجمهور : ( ولا تجسسوا ) بالجيم . وقرأ الحسن وأبو رجاء بالحاء وهما متقاربان ، نهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وقيل وابن سيرين : هل لك في فلان تقطر لحيته خمرا ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . وفي الحديث : " لابن مسعود " ، وقد وقع أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجما ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر .
( ولا يغتب بعضكم بعضا ) ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ، والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه . وفي الحديث : " " ، وفي الصحيحين فقد بهته . وقال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقا ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت باطلا فذلك البهتان : الغيبة إدام كلاب الناس . وقالت ابن عباس عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه " . وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل ، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم " . وفي الحديث المستفيض : " " . ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه : فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
( أيحب أحدكم ) ، قال : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا . انتهى . وقال الزمخشري الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل . انتهى . وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض [ ص: 115 ] بأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر .
وقال تعالى : ( ميتا ) ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت . انتهى . وروي في الحديث : " ما صام من أكل لحوم الناس " . وقال : سمعت أبو قلابة الرياشي أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا منذ عرفت ما في الغيبة . وقيل لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا . وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي . وانتصب ميتا على الحال من ( لحم ) ، وأجاز أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجا ، وقيام زيد مسرعا . فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع . وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزءا أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو . ( الزمخشري فكرهتموه ) ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلوه . وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا التقدير يعطف قوله : ( واتقوا الله ) ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم .
وقال : ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : ( الزمخشري فكرهتموه ) ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . انتهى ، وفيه أيضا عجرفة العجم . والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفا ، وأجرى على قواعد العربية . وقيل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه ( واتقوا الله ) ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر .
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية . جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ، ثم نهى ثانيا عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علما بقوله : ( ولا تجسسوا ) ، ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظن فعلم بالتجسس فاغتياب . وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ ، أبو سعيد الخدري وأبو حيوة : فكرهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ، ورواها الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه . فأما قوله : ( وكره إليكم الكفر ) فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبـ إلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد . والظاهر عطف ( واتقوا الله ) على ما قبله من الأمر والنهي .