[ ص: 151 ] لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذارا للكافر ، وتبشيرا للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذ كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس . وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط . وقال : ( فذكر ) فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض . فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ; وما أنت بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين . انتهى . وقال الزمخشري الحوفي : ( بنعمة ربك ) متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن . قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهنا ولا مجنونا ملتبسا بنعمة ربك . انتهى . وتكون حالا لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه . وقيل : ( بنعمة ربك ) مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم . ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعا آخر مما كانوا يقولونه .
روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه ، صلى الله عليه وسلم ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك . وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالئوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، جحدا لآيات الله بعد استيقانها . وقرأ : يتربص بالياء مبنيا للمفعول به ، ( ريب ) : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر : زيد بن علي
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال الهندي :
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
( قل تربصوا ) : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي . ( أم تأمرهم أحلامهم ) : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهى . وقيل : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . ( لعمرو بن العاص أم تأمرهم ) ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم ؟ وقدرها مجاهد بـ بل ، والصحيح أنها تتقدر بـ بل والهمزة .
( أم هم قوم طاغون ) : أي مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق . وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : ( أم هم ) ، وكون الأحلام آمرة مجازا لما أدت إلى ذلك جعلت آمرة كقوله : ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ) . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في [ ص: 152 ] سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف . تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ) . وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص . انتهى . ( بل لا يؤمنون ) : أي لكفرهم وعنادهم ، ثم عجزهم بقوله تعالى : ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) : أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والإخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقول . فقرأ الجحدري وأبو السمال : ( بحديث مثله ) ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحدا منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبدا . ( أم خلقوا من غير شيء ) : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله . وقيل : ( الطبري من غير شيء ) : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية . وقال : ( الزمخشري أم خلقوا ) : أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ; ( من غير شيء ) : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ؟ ( بل لا يوقنون ) : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون . أم خلقوا من غير رب ولا خالق ؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم ؟ ( أم هم الخالقون ) لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه . والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم . وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ؟ ثم خصص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين . ( أم عندهم خزائن ربك ) ، قال : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ( الزمخشري أم هم المسيطرون ) : الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم . وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى . وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته . انتهى . والمسيطر ، قال : المسلط القاهر . وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ; ابن عباس وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ; ومن أبدلها صادا ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلق عن حمزة وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي . ( أم لهم سلم ) منصوب إلى السماء ، ( يستمعون فيه ) : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . ( الزمخشري بسلطان مبين ) : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ، ( أم تسألهم أجرا ) على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، ( فهم ) من ذلك المغرم الثقيل اللازم ( مثقلون ) ، فاقتضى زهدهم في اتباعك . ( أم عندهم الغيب ) : أي اللوح المحفوظ ، ( فهم يكتبون ) : أي يثبتون ذلك للناس شرعا ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت [ ص: 153 ] محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون . وقال : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون . ( ابن عباس أم يريدون كيدا ) : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، ( فالذين كفروا ) : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيها على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، ( هم المكيدون ) : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيدا ، إذ كانت عقوبة الكيد . ( أم لهم إله غير الله ) يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، ( عما يشركون ) به من الأصنام والأوثان . ( وإن يروا كسفا من السماء ) : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فيما اقترحت من قولهم : ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عيانا ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب . ( فذرهم ) : أمر موادعة منسوخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ( حتى يلاقوا ) ; وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، ( يومهم ) : أي يوم موتهم واحدا واحدا ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق . وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء . وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل . وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعيا . ( وإن للذين ظلموا ) : أي لهؤلاء الظلمة ، ( عذابا دون ذلك ) : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله وغيره . وقال ابن عباس البراء بن عازب أيضا : هو عذاب القبر . وقال وابن عباس الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا . وقال مجاهد : هو الجوع والقحط سبع سنين . ( فإنك بأعيننا ) : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفردا ، أفرد العين ، قال تعالى : ( ولتصنع على عيني ) . وقرأ أبو السمال : بأعينا ، بنون واحدة مشددة . ( وسبح بحمد ربك ) ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام . وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد . وقال : حين تقوم من منامك . وقيل : هو صلاة التطوع . وقيل : الفريضة . وقال ابن عباس الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : . وقال سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر . وقال زيد بن أسلم ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة . ( ومن الليل فسبحه ) : قبل صلاة المغرب والعشاء . ( وإدبار النجوم ) : صلاة الصبح . وعن عمرو وعلي وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، ( وإدبار النجوم ) : ركعتا الفجر . وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم .