[ ص: 157 ] هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه قال : ( أم يقولون تقوله ) : أي اختلق القرآن ، ونسبوه إلى الشعر وقالوا : هو كاهن ومجنون ; فأقسم تعالى أنه ، صلى الله عليه وسلم ، ما ضل ، وأن ما يأتي به هو وحي من الله ، وهي أول سورة أعلن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بها في الحرم ، والمشركون يستمعون ، فيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال : يكفي هذا . وسبب نزولها قول المشركين : إن محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، يختلق القرآن . وأقسم تعالى بالنجم ، فقال ابن عباس ومجاهد والقاضي والفراء : هو الجملة من القرآن إذا نزلت ، وقد نزل منجما في عشرين سنة . وقال منذر بن سعيد الحسن ومعمر بن المثنى : هو هنا اسم جنس ، والمراد النجوم إذا هوت : أي غربت ، قال الشاعر :
فباتت تعد النجم في مستجره سريع بأيدي الآكلين حمودها
أي : تعد النجوم . وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : النجوم إذا انتثرت في القيامة . وقال أيضا : هو انقض في أثر الشياطين ، وهذا تساعده اللغة . وقال ابن عباس الأخفش : والنجم إذا طلع ، وهويه : سقوطه على الأرض . وقال ابن جبير : الصادق هو النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهويه : نزوله ليلة المعراج . وقيل : النجم معين . فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا ، وهويها : سقوطها مع الفجر ، وهو علم عليها بالغلبة ، ولا تقول العرب النجم مطلقا إلا للثريا ، ومنه قول العرب :
طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غديه فابتغى الراعي كسيه
وقيل : الشعرى ، وإليها الإشارة بقوله : ( وأنه هو رب الشعرى ) ، والكهان والمنجمون يتكلمون على المغيبات عند طلوعها . وقيل : الزهرة ، وكانت تعبد . وقيل : ( والنجم ) : هم الصحابة . وقيل : العلماء مفرد أريد به الجمع ، وهو في اللغة خرق الهوى ومقصده السفل ، إذ مصيره إليه ، وإن لم يقصد إليه . وقال الشاعر :
هوي الدلو أسلمها الرشاء
ومنه : هوى العقاب . ( صاحبكم ) : هو محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، والخطاب لقريش : أي هو مهتد راشد ، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي . ( وما ينطق ) : أي الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، ( عن الهوى ) : أي عن هوى نفسه ورأيه . ( إن هو إلا وحي ) من عند الله ، ( يوحى ) إليه . وقيل : ( وما ينطق ) : أي القرآن ، عن هوى وشهوة ، كقوله : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) . ( إن هو ) : أي الذي ينطق به . أو ( إن هو ) : أي القرآن . ( علمه ) : الضمير عائد على الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي علمه الوحي . أو على القرآن ، فالمفعول الأول محذوف ، أي علمه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ( شديد القوى ) : هو جبريل ، وهو مناسب للأوصاف التي بعده ، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع . وقال الحسن : ( شديد القوى ) : هو الله تعالى ، وهو بعيد .
( ذو مرة ) : ذو قوة ، ومنه لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي . وقيل : ذو هيئة حسنة . وقيل : هو جسم طويل حسن . ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام . ( فاستوى ) : الضمير لله في قول الحسن ، وكذا ( وهو بالأفق الأعلى ) لله تعالى ، على معنى العظمة والقدرة والسلطان . وعلى قول الجمهور : ( فاستوى ) : أي جبريل في الجو ، ( وهو بالأفق الأعلى ) ، إن رآه الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين ، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة ، قاله الربيع . وقال والزجاج : [ ص: 158 ] الطبري : المعنى فاستوى والفراء جبريل ; وقوله : ( وهو ) ، يعني محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين . وقد يقال : الضمير في استوى للرسول ، وهو لجبريل ، والأعلى لعمة الرأس وما جرى معه . وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس .
وقال : ( فاستوى ) : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة الزمخشري دحية ، وذلك أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له بالأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس ، فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ، صلى الله عليه وسلم ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء . ( ثم دنا ) من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ( فتدلى ) : فتعلق عليه في الهوى . وكان مقدار مسافة قربه منه مثل ( قاب قوسين ) ، فحذفت هذه المضافات ، كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
أي : ذا مسافة مقدار أصبع ، ( أو أدنى ) على تقديركم ، كقوله : ( أو يزيدون ) . ( إلى عبده ) : أي إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله : ( ما ترك على ظهرها ) . ( ما أوحى ) : تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل . انتهى . وقال ابن عطية : ( ثم دنا ) ، قال الجمهور : أي جبريل إلى محمد ، عليهما الصلاة والسلام ، عند حراء . وقال وأنس في حديث الإسراء : ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى . وقيل : كان الدنو إلى جبريل . وقيل : إلى الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته ، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع ابن عباس جبريل بدليل قوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ، فإنه يقتضي نزلة متقدمة . وما روي أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، رأى ربه قبل ليلة الإسراء . ودنا أعم من تدلى ، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر ، قال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض . وقال أبو رزين : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين . وعن : أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال . وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز . ابن عباس
( فأوحى ) : أي الله ، ( إلى عبده ) : أي الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، قاله . وقيل : ( ابن عباس إلى عبده ) جبريل ، ( ما أوحى ) : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات . وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ما أوحى ، كالأول في الإبهام . وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام . وقال : ( الزمخشري ما أوحى ) : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك . ( ما كذب ) فؤاد محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق . انتهى . وقرأ الجمهور : ما كذب مخففا ، على معنى : لم يكذب قلب محمد ، صلى الله عليه وسلم ، الشيء الذي رآه ، بل صدقه وتحققه نظرا ، وكذب يتعدى . وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد ، صلى الله عليه وسلم ، الله تعالى بفؤاده . وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى .
وعن ابن عباس وعكرمة : أن وكعب الأحبار محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، رأى ربه بعيني رأسه ، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقالت : أنا سألت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن هذه الآيات ، فقال لي : " هو جبريل عليه السلام فيها كلها " . وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ فقال : " " . وحديث نور أنى أراه عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو [ ص: 159 ] منتزع من ألفاظ القرآن ، وليست نصا في الرؤية بالبصر ، بل ولا بغيره . وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن إلياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشددا . وقال : إن الله قسم الرؤية والكلام بين كعب الأحبار محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد ، صلى الله عليه وسلم ، مرتين . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا ، وقرأت : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى .
وقرأ الجمهور : ( أفتمارونه ) : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره ، وعدي بعلى لما في الجدال من المغالبة ، وجاء يرى بصيغة المضارع ، وإن كانت الرؤية قد مضت ، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد . وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة : بفتح التاء وسكون الميم ، مضارع مريت : أي جحدت ، يقال : مريته حقه ، إذا جحدته ، قال الشاعر : والكسائي
لئن سخرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا