( أفرأيت ) الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ثم إنه عاتبه رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال . فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح . وقال الضحاك : هو النضر بن الحارث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه . وقال : نزلت في السدي العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في بعض الأمور . وقال : في محمد بن كعب أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق . وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن [ ص: 167 ] عفان ، رضي الله تعالى عنه ; كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة نحوا من كلام القائل عبد الله بن سعد بن أبي سرح للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به . وذكر القصة بتمامها ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها . قال الزمخشري ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله . انتهى .
وأفرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : ( أعنده علم الغيب ) . و ( تولى ) : أي أعرض عن الإسلام . وقال : ( تولى ) : ترك المركز يوم أحد . انتهى . لما جعل الآية نزلت في الزمخشري عثمان فسر التولي بهذا . وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان . ( وأعطى قليلا وأكدى ) ، قال : أطاع قليلا ثم عصى . وقال ابن عباس مجاهد : أعطى قليلا من نفسه بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع . وقال الضحاك : أعطى قليلا من ماله ثم منع . وقال مقاتل : أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع . ( أعنده علم الغيب ) : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة ، أم هو جاهل ؟ وقال : ( الزمخشري فهو يرى ) : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق . وقيل : يعلم حاله في الآخرة . وقال : يرى رفع مأثمه في الآخرة . وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل . وقال الزجاج الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق . وقيل : ( فهو يرى ) : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة .
( أم لم ينبأ ) : أي بل ألم يخبر ؟ ( بما في صحف موسى ) ، وهي التوراة . ( وإبراهيم ) : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام . قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده . فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى ، صلى الله عليه وسلم عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره . ( الذي وفى ) ، قرأ الجمهور : وفى بتشديد الفاء . وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفى ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقا له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق وزيد بن علي إسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه . وكان يمشي كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن : عهد أن لا يسأل مخلوقا . وقال عطاء بن السائب ابن عباس والربيع : وفى طاعة الله في أمر ذبح ابنه . وقال الحسن وقتادة : وفى بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله . وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : ( أن لا تزر ) فما بعدها . وقال أيضا ابن عباس وقتادة : وفى ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار . وقال أيضا : وفى شرائع الإسلام ثلاثين سهما ، يعني عشرة في براءة ( التائبون . . . إلخ ) ، وعشرة في ( قد أفلح ) ، وعشرة في الأحزاب ( إن المسلمين . . . . ) وقال ابن عباس أبو أمامة : ورفعه إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وفى أربع صلوات في كل يوم . وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه ، فوجده وافيا . انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه . وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفى ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : ( بما في صحف ) ، أو في موضع رفع ، كأن قائلا قال : ما في صحفهما ، فقيل : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وتقدم شرح ( لا تزر وازرة وزر أخرى ) .
( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) : الظاهر أن الإنسان يشمل [ ص: 168 ] المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث : هل لأمي إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم . وقال سعد بن عبادة الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره . وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر عن هذه الآية مع قوله : ( الحسين بن الفضل والله يضاعف لمن يشاء ) ، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين . وما روي عن أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفا ; وعند الجمهور : إنها محكمة . قال ابن عباس ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : ( للإنسان ) . فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة . واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال . انتهى .
والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضرا يوم القيامة . وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ، والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر . قال : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : ( الزمخشري الجزاء الأوفى ) . وإذا كان تفسيرا للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه ؟ وأما إذا كان بدلا ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع . وقرأ الجمهور : ( وأن إلى ربك ) وما بعدها من ( وأنه ) ، وأن بفتح الهمزة عطفا على ما قبلها . وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : ( الأوفى ) وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : ( وإلى الله المصير ) : أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ; وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية . وعن أبي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في قوله تعالى : ( وأن إلى ربك المنتهى ) ، لا فكرة في الرب . وروى أنس عنه ، صلى الله عليه وسلم : " إذا ذكر الرب فانتهوا " .
( وأنه هو أضحك وأبكى ) : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء . قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار . وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن . وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر . وقال : ( الزمخشري أضحك وأبكى ) : خلق قوتي الضحك والبكاء . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والبكاء . ( وأنه خلق الزوجين ) المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ، ( من نطفة إذا تمنى ) : أي إذا تدفق ، وهو المني . يقال : أمنى الرجل ومنى . وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من منى الماني ، أي قدر المقدر . ( وأن عليه النشأة الأخرى ) : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : ( عليه ) بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت . وقال : وقال ( عليه ) ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . الزمخشري
( وأنه هو أغنى وأقنى ) : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى . وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولا ، كقولهم : [ ص: 169 ] أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة . والشعرى التي عبدت هي العبور . وقال : كانت تعبدها السدي حمير وخزاعة . وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام : ، ومن ذلك كلام ابن أبي كبشة أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة . ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولا ، والنجوم تقطعها عرضا . وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء .
( وأنه أهلك عادا الأولى ) : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : ( وأنه هو أضحك ) ، ( وأنه هو أمات ) ، ( وأنه هو أغنى ) ، ( وأنه هو رب الشعرى ) . ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض الناس ، كقول نمروذ : ( أنا أحيي وأميت ) ، احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني والمقني حقيقة ، وإن ادعى ذلك أحد فلا حقيقة له . وأما ( وأنه هو رب الشعرى ) ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها . ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك . و عاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم . وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه السلام . وقيل : الأولى : المتقدمون في الدنيا الأشراف ، قاله . وقال الزمخشري ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة . وقال : وصفت بالأولى ، لأن عادا الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو الطبري بنو لقيم بن هزال . وقال : عاد الأخيرة هي المبرد ثمود ، والدليل عليه قول زهير :
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
ذكره الزهراوي . وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون . وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود . وقيل : ثمود من قبل عاد . وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ; وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى . وقرأ الجمهور : ( عادا الأولى ) ، بتنوين عادا وكسره لالتقائه ساكنا مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام . وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة . وقرأ نافع وأبو عمرو بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني . وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على لحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة . ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال : والمبرد
أحب المؤقدين إلي مؤسى وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي ( عاد ) غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعلمية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى . وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفا ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة . ( فما أبقى ) : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معا ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم . وقيل : ( فما أبقى ) : أي فما أبقى منهم عينا تطرف . وقال ذلك حين قيل له إن ثقيفا من نسل الحجاج بن يوسف ثمود ، فقال : قال الله تعالى : ( وثمودا فما أبقى ) ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به . ( وقوم نوح من قبل ) : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه السلام أول الرسل . والظاهر أن الضمير في ( إنهم ) عائد على قوم نوح ، وجعلهم ( أظلم وأطغى ) لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه [ ص: 170 ] السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه . وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه . وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهم يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلا ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبرا لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه ، فكذلك في خبر كان . ( والمؤتفكة ) : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذبا ، أفكه فأتفك . قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودمرت أماكنه . ( أهوى ) : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض . وقال : جعلها تهوي . وقرأ المبرد الحسن : والمؤتفكات جمعا ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة . ويجوز أن يكون ( والمؤتفكة ) معطوفا على ما قبله ، و ( أهوى ) جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهويا لها . ( فغشاها ما غشى ) : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه السلام ، أتبعت حجارة غشيتهم . واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) .
( فبأي آلاء ربك تتمارى ) : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر . وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : ( أن لا تزر ) إلى قوله : ( تتمارى ) هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام . ( هذا نذير ) ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به . وقيل : الإشارة إلى القرآن . وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدرا أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا ينقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر ; والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل . فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة . ولما ذكر إهلاك من تقدم ذكره ، وذكر قوله : ( هذا نذير ) ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال : ( أزفت الآزفة ) : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : ( اقتربت الساعة ) ، وهي القيامة . ( ليس لها من دون الله كاشفة ) : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري . وقال القاضي والزجاج : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهولها . انتهى . ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة . وقال منذر بن سعيد الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدرا ، كالعاقبة ، ( وخائنة الأعين ) ، أي ليس لها كشف من دون الله . وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة . ( أفمن هذا الحديث ) . وهو القرآن ، ( تعجبون ) فتنكرون ، ( وتضحكون ) مستهزئين ، ( ولا تبكون ) جزعا من وعيده . ( وأنتم سامدون ) ، قال مجاهد : معرضون . وقال عكرمة : لاهون . وقال قتادة : غافلون . وقال : مستكبرون . وقال السدي : ساهون . وقال ابن عباس : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه . وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكا بعد نزولها [ ص: 171 ] فاسجدوا : أي صلوا له ، ( واعبدوا ) : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام . وخرج المبرد البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، والرجل أمية بن خلف . وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو . وقرأ الحسن : تعجبون تضحكون بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء . وفي قوله : ( ولا تبكون ) ، حض على . والسجود هنا عند كثير من أهل العلم ، منهم البكاء عند سماع القرآن رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها عمر بن الخطاب مالك هنا . وعن : أنه قرأ بها عند رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم . زيد بن ثابت