( وكنتم ) : خطاب للعالم ، ( أزواجا ثلاثة ) : أصنافا ثلاثة ، وهذه رتب للناس يوم القيامة . ( فأصحاب الميمنة ) ، قال الحسن والربيع : هم الميامين على أنفسهم . وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم . وقيل : أصحاب المنزلة السنية ، كما تقول : هو مني باليمين . وقيل : المأخوذ بهم ذات اليمين أو ميمنة آدم المذكورة في حدث الإسراء في الأسودة . ( وأصحاب المشأمة ) : هم من قابل أصحاب الميمنة في هذه الأقوال ، فأصحاب مبتدأ ، ما مبتدأ ثان استفهام [ ص: 205 ] في معنى التعظيم ، وأصحاب الميمنة خبر عن ما ، وما بعدها خبر عن أصحاب ، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم ، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، والمعنى : أي شيء هم .
( والسابقون السابقون ) : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبرا ، نحو قولهم : أنت أنت ، وقوله : أنا أبو النجم ، وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق ، أي الطاعات ، وبرعوا فيها وعرفت حالهم . وأن يكون السابقون تأكيدا لفظيا ، والخبر فيما بعد ذلك ; وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده ، وتقف على قوله : ( والسابقون ) ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفا للسبق الثاني . والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبرا لقوله : ( والسابقون ) ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده . والوجه الأول ، قال ابن عطية : ومذهب أنه يعني السابقون خبر الابتداء ، يعني خبر والسابقون ، وهذا كما تقول : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه . انتهى . ويرجح هذا القول أنه ذكر أصحاب الميمنة متعجبا منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة متعجبا منهم في شقاوتهم ، فناسب أن يذكر السابقون مثبتا حالهم معظما ، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة ، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات ، وإلى ترك المعاصي . وقال سيبويه عثمان بن أبي سودة : السابقون إلى المساجد . وقال : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال ابن سيرين كعب : هم أهل القرآن . وفي الحديث : " " . ( أولئك ) : إشارة إلى السابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش . وقرأ الجمهور : ( سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم في جنات ) ، جمعا . وطلحة : في جنة مفردا . وقسم السابقين المقربين إلى ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) . وقال الحسن : السابقون من الأمم ، والسابقون من هذه الأمة . وقالت عائشة : الفرقتان في كل أمة نبي ، في صدرها ثلة ، وفي آخرها قليل . وقيل : هما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كانوا في صدر الدنيا ، وفي آخرها أقل . وفي الحديث : " الفرقتان في أمتي ، فسابق في أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل " ، وارتفع ثلة على إضمارهم .
وقرأ الجمهور : ( على سرر ) بضم الراء ; وزيد بن علي وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب ، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف ، نحو سرير ، وتقدم ذلك في والصافات . ( موضونة ) ، قال : مرمولة بالذهب . وقال ابن عباس عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت . ( متكئين عليها ) : أي على السرر ، ومتكئين : حال من الضمير المستكن في ( على سرر ) ، ( متقابلين ) : ينظر بعضهم إلى بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهم من غل إخوانا . ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ) : وصفوا بالخلد ، وإن كان من في الجنة مخلدا ، ليدل على أنهم يبقون دائما في سن الولدان ، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة . وقال مجاهد : لا يموتون . وقال الفراء : مقرطون بالخلدات ، وهي ضروب من الأقراط . ( وكأس من معين ) ، قال : من خمر سائلة جارية معينة . ( لا يصدعون عنها ) ، قال الأكثرون : لا يلحق رءوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا . وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير ، رحمه الله تعالى قول علقمة في صفة الخمر :
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال : هذه . وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى : لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب ، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، كما جاء : فتصدع السحاب عن صفة أهل الجنة المدينة : أي فتفرق . وقرأ مجاهد : لا يصدعون ، بفتح الياء وشد الصاد ، أصله يتصدعون ، أدغم التاء في الصاد : أي لا يتفرقون ، كقوله : [ ص: 206 ] ( يومئذ يصدعون ) . والجمهور ; بضم الياء وخفة الصاد ; والجمهور : بجر ( وفاكهة ) ; ولحم . : برفعهما ، أي ولهم . والجمهور : ( وزيد بن علي ولا ينزفون ) مبنيا للمفعول . قال مجاهد وقتادة وجبير والضحاك : لا تذهب عقولهم سكرا ; وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ، نزف البئر : استفرغ ماءها ، فالمعنى : لا تفرغ خمرهم . وابن أبي إسحاق أيضا وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي : أي لا يفنى لهم شراب ، ( مما يتخيرون ) : يأخذون خيره وأفضله ، ( مما يشتهون ) : أي يتمنون .
وقرأ الجمهور : ( وحور عين ) برفعهما ; وخرج علي على أن يكون معطوفا على ( ولدان ) ، أو على الضمير المستكن في ( متكئين ) ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره : لهم هذا كله ، ( وحور عين ) ، أو على حذف خبر فقط : أي ولهم حور ، أو فيهما حور . وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة : بجرهما ; والكسائي والنخعي : وحير عين ، بقلب الواو ياء وجرهما ، والجر عطف على المجرور ، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين . وقيل : هو على معنى : وينعمون بهذا كله وبحور عين . وقال : عطفا على ( الزمخشري جنات النعيم ) ، كأنه قال : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور . انتهى ، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي . وقرأ أبي وعبد الله : وحورا عينا بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحورا عينا . وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافا إلى عين ; وابن مقسم : بالنصب مضافا إلى عين ; وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما ; فاحتمل أن يكون مجرورا عطفا على المجرور السابق ; واحتمل أن يكون منصوبا ; كقراءة أبي وعبد الله وحورا عينا . ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير . وفي الحديث : " صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي " . وقال تعالى : ( كأنهن بيض مكنون ) ، وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال :
قامت تراءى بين سجفي كلة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
( جزاء بما كانوا يعملون ) : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : " . ( لغوا ) : سقط القول وفحشه ، ( لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة ولا تأثيما ) : ما يؤثم أحدا والظاهر أن ( إلا قيلا سلاما سلاما ) استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل . وسلاما ، قال : هو مصدر نصبه ( قيلا ) ، أي يقول بعضهم لبعض ( الزجاج سلاما سلاما ) . وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلا ، أي قيلا اسلموا سلاما . وقيل : ( سلاما ) بدل من ( قيلا ) . وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلا سالما من هذه العيوب . ( في سدر ) : في الجنة شجر على خلقه ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح . ( مخضود ) : عار من الشوك . وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه . وقرأ الجمهور : ( وطلح ) بالحاء ; وعلي وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر . وقال علي وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز . وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب . وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة . وقال : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق تظهر . ( السدي وظل ممدود ) : لا يتقلص . بل منبسط لا ينسخه شيء . [ ص: 207 ] قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها . ( وماء مسكوب ) ، قال سفيان وغيره : جار في غير أخاديد . وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء . ( لا مقطوعة ) : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، ( ولا ممنوعة ) : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا . وقرئ : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ، وفرش : جمع فراش . وقرأ الجمهور : بضم الراء ; وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة . والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم . وقال أبو عبيدة وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل . والضمير في ( أنشأناهن ) عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هن النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة . والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصا بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة فيكون ذلك لبنات آدم . ( فجعلناهن أبكارا عربا ) : والعرب ، قال : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله ابن عباس الحسن ، وعبر أيضا عنهن بالعواشق ، ومنه قول ابن عباس لبيد :
وفي الخدور عروب غير فاحشة ريا الروادف يغشى دونها البصر
وقرأ حمزة وناس منهم شجاع وعباس ، عن والأصمعي أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو خليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم ; وباقي السبعة : بضمها . ( أترابا ) في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ( أنشأناهن ) عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين . واللام في ( لأصحاب ) متعلقة بأنشأناهن . ( ثلة من الأولين ) : أي من الأمم الماضية ، ( وثلة من الآخرين ) : أي من أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ولا تنافي بين قوله : ( وثلة من الآخرين ) وقوله قبل : ( وقليل من الآخرين ) ، لأن قوله : ( من الآخرين ) هو في السابقين ، وقوله ( وثلة من الآخرين ) هو في أصحاب اليمين .