لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته والنفقة في سبيل الله تعالى . قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك . ( مستخلفين فيه ) : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم . وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : " " . وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي . أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى . يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت
ثم ذكر تعالى ، ووصفه بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب . قيل : وفيه إشارة إلى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ، ثم قال : ( عثمان بن عفان وما لكم لا تؤمنون بالله ) ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان ؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل . وموجب ذلك من السمع في قوله : ( والرسول يدعوكم ) لهذا الوصف الجليل . وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه . و ( لا تؤمنون ) حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه ؟ ( والرسول ) : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها .
( إن كنتم مؤمنين ) : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب ما ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق . وقال : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن . وقرأ الجمهور : ( الطبري وقد أخذ ) مبنيا للفاعل ، ( ميثاقكم ) بالنصب ; وأبو عمرو : مبنيا للمفعول ، ميثاقكم رفعا . وقال ابن عطية : في قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) وإنما المعنى أن قوله : ( والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ) يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة . ( إن كنتم مؤمنين ) : أي إن دمتم على ما بدأتم به .
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لأنه أقرب . وقرئ في السبعة : ( ينزل ) مضارعا ، فبعض ثقل وبعض خفف . وقراءة الحسن : بالوجهين ; وزيد بن علي : أنزل ماضيا ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيسا لهم . والأعمش
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه . ونبه على هذا الموجب بقوله : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق . وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على الخلاف ، وأن ليست زائدة بل مصدرية . وقال [ ص: 219 ] الأخفش : في قوله : ( وما لنا ألا نقاتل ) ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو .
( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : ( أولئك أعظم درجة ) . وقيل : نزلت بسبب أن ناسا من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجرا من كل من أنفق . وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين . وقرأ الجمهور : ( من قبل الفتح ) ; ، قيل : بغير من . والفتح فتح وزيد بن علي مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد . وقال أبو سعيد الخدري : هو فتح والشعبي الحديبية ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحا ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية . والظاهر أن ( من ) فاعل ( لا يستوي ) ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى .
( أولئك ) : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوه واستيلاء المسلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله ، صلى الله عليه وسلم : " أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " . وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل بـ " لا يستوي " ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ; ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب . وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي . وقرأ الجمهور : ( وكلا ) بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد . وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك لو أنفق أحدكم مثل الفراء وهشام ، ورد في السبعة ، فوجب قبوله ; وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة . وقال الشاعر :
وخالد تحمد ساداتنا بالحق لا تحمد بالباطل
يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبرا فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خبرا ، نحو قوله :
وما أدري أغيرهم تناء وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة . والوعد يتضمن ذلك في الآخرة والنصر والغنيمة في الدنيا . ( والله بما تعملون خبير ) : فيه وعد ووعيد .
وتقدم الكلام على مثل قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ) ، إعرابا وقراءة وتفسيرا ، في سورة البقرة . وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف . وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق . قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : ( من ذا الذي يقرض ) بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ [ ص: 220 ] انتهى .
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له ؟ وأين بيتك فأزورك ؟ ومتى تسير فأرافقك ؟ وكيف تكون فأصحبك ؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل . وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ بالنصب بعد الفاء . وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن . وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع ابن كيسان ذلك محكيا عن العرب يؤيد ذلك . والظاهر أن قوله : ( وله أجر كريم ) هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم .