قوله عز وجل ( حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ) .
[ ص: 236 ] نزلت ( ألم تر ) في اليهود والمنافقين . كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم . فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله . وقال ابن عباس مجاهد : نزلت في اليهود . وقال ابن السائب : في المنافقين . وقرأ الجمهور : ( ويتناجون ) ; وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى . ( بما لم يحيك به الله ) : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت ; فيرد عليهم : وعليكم . وتحية الله لأنبيائه : ( وسلام على عباده الذين اصطفى ) . ( لولا يعذبنا الله بما نقول ) : أي إن كان نبيا ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول ؟ فقال تعالى : ( حسبهم جهنم ) .
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد . ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك . وقرأ الجمهور : ( فلا تتناجوا ) ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء . وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى ; والجمهور : بضم عين العدوان ; وأبو حيوة بكسرها حيث وقع ; والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع . والجمهور : على الإفراد . وقرأ عبد الله : إذا انتجيتم فلا تنتجوا . وأل في ( إنما النجوى ) للعهد في نجوى الكفار ( بالإثم والعدوان ) ، وكونها ( من الشيطان ) ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه .
( ليحزن الذين آمنوا ) : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا . ( وليس ) : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، ( بضارهم ) : أي المؤمنين ، ( إلا بإذن الله ) : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة . وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة . يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد ، وقاصدا نحوه . وقال : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجى بها . انتهى . ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : ( ليحزن ) . وقرئ : بفتح الياء والزاي ، فيكون ( الذين ) فاعلا ، وفي القراءتين مفعولا . عطية العوفي
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) الآية . قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال ابن عباس الحسن : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت . وقرأ الجمهور : ( تفسحوا ) ; ويزيد بن أبي حبيب وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا . والجمهور : في المجلس ; وعاصم وقتادة وعيسى : ( في المجالس ) . وقرئ : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه . والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول . وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم ; ويؤيده قراءة من قرأ ( في المجالس ) ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلسا في بيت الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وانجزم ( يفسح الله ) على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال .
( وإذا قيل انشزوا ) : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع . أمروا أولا [ ص: 237 ] بالتفسح ، ثم ثانيا بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا . وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا . وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحيانا يؤثر الانفراد في أمر الإسلام . وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين ; والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها . والظاهر أن قوله : ( والذين أوتوا العلم ) معطوف على ( الذين آمنوا ) ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة . وقال وغيره : تم الكلام عند قوله : ( منكم ) ، وانتصب ( ابن مسعود والذين أوتوا العلم ) بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات ، بين يدي نجواكم استعارة والمعنى قبل نجواكم ، وعن ، ابن عباس وقتادة : أن قوما من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام ، في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان صلى الله عليه وسلم ، سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة ، وهذا الحكم قيل نسخ قبل العمل به . وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار . وقال مقاتل : عشرة أيام . وقال علي كرم الله وجهه : ما عمل به أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار ، فصرفته بعشرة دراهم ، وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة ، وقرئ : صدقات بالجمع . وقال : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : بآية الزكاة . أأشفقتم أخفتم من ذهاب المال في الصدقة أو من العجز عن وجودها تتصدقون به . فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات . وقرأ ابن عباس عياش عن أبي عمرو : خبير بما يعملون . بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء .