[ ص: 284 ] وروي أن قوما ، منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان ، لما سمعوا قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا : يا رسول الله ، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر ؟ فنزلت هذه الآية ، فقال قائل : فما عدة الحامل ؟ فنزلت وأولات الأحمال . وقرأ الجمهور : ( يئسن ) فعلا ماضيا . وقرئ : بياءين مضارعا ، ومعنى إن ارتبتم في أنها يئست أم لا ; لأجل مكان ظهور الحمل ، وإن كان انقطع دمها . وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، أهو دم حيض أو استحاضة ؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك . وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة ، وبعضهم بخمس وخمسين . وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة . وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم . وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم ، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة . وقيل : إن ارتبتم شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن ، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر . واختار أن معنى الطبري إن ارتبتم شككتم فلم تدروا ما الحكم ، فقيل : إن ارتبتم أي : إن تيقنتم إياسهن ، وهو من الأضداد . وقال : المعنى إن ارتبتم في حيضها ، وقد انقطع عنها الدم ، وكانت مما يحيض مثلها . وقال الزجاج مجاهد أيضا : إن ارتبتم هو للمخاطبين ، أي : إن لم تعلموا عدة الآيسة واللائي لم يحضن فالعدة هذه ، فتلخص في قوله : إن ارتبتم قولان : أحدهما ، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه ، وهو حصول الشك ، والآخر أن معناه التيقن للإياس ، والقول الأول معناه : إن ارتبتم في دمها ، أهو دم حيض أو دم علة ؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا ، أو إن ارتبتم أي : جهلتم عدتهن ، أقوال . والظاهر أن قوله : واللائي لم يحضن يشمل من لم يحض لصغر ، ومن لا يكون لها حيض البتة ، وهو موجود في النساء ، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض . ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض ، فقيل : هذه تعتد سنة . واللائي لم يحضن معطوف على واللائي يئسن فإعرابه مبتدأ كإعراب واللائي يئسن وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول ، أي : عدتهن ثلاثة أشهر ، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك ، فيكون المقدر مفردا جملة . وأولات الأحمال عام في المطلقة وفي المتوفى عنها زوجها ، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وفقهاء الأمصار . وقال وأبي هريرة علي : وابن عباس وأولات الأحمال في المطلقات ، وأما المتوفى عنها فعدتها أقصى الأجلين ، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها ، والحجة عليها حديث سبيعة . وقال : من شاء لاعنته ، ما نزلت ابن مسعود وأولات الأحمال إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها . وقرأ الجمهور : ( حملهن ) مفردا . والضحاك : " أحمالهن " جمعا .
ذلك أمر الله يريد ما علم من حكم المعتدات . وقرأ الجمهور : ( ويعظم ) بالياء مضارع أعظم . : نعظم بالنون ، خروجا من الغيبة للتكلم . والأعمش وابن مقسم : بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا . ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها ، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة ، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى ، مبرزا في صورة شرط وجزاء في قوله : ومن يتق الله إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها ، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها ، فلذلك تكرر قوله : ومن يتق الله في العمل بما أنزله من هذه الأحكام ، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه ، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر . و " من " في من حيث سكنتم للتبعيض أي : بعض مكان سكناكم . وقال قتادة : إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه ، قاله . وقال الزمخشري الحوفي : " من " لابتداء الغاية ، وكذا قال أبو البقاء . و من وجدكم . قال : ( فإن قلت ) : فقوله : الزمخشري من وجدكم . ( قلت ) : [ ص: 285 ] هو عطف بيان ، كقوله : من حيث سكنتم وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة . انتهى . ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا من قوله : من حيث سكنتم . وقرأ الجمهور : من وجدكم بضم الواو . والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتحها . و الفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها ، وذكرها المهدوي عن ، وهي لغات ثلاثة بمعنى : الوسع . والوجد بالفتح ، يستعمل في الحزن والغضب والحب ، ويقال : وجدت في المال ، ووجدت على الرجل وجدا وموجدة ، ووجدت الضالة وجدانا ، والوجد بالضم : الغنى والقدرة ، يقال : افتقر الرجل بعد وجد . وأمر - تعالى - بإسكان المطلقات ، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت . وأما المبتوتة ، فقال الأعرج ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء ، و الشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : لها السكنى ، ولا نفقة لها . وقال الثوري وأبو حنيفة : لها السكنى والنفقة . وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق : لا سكنى لها ولا نفقة . وأبو ثور ولا تضاروهن ولا تستعملوا معهن الضرار لتضيقوا عليهن في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن ، أو بشغل مكانهن ، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج . وقيل : هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل ، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية . وقيل : إلجاؤها إلى أن تفتدي منه .
وإن كن أولات حمل لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ، بتت أو لم تبت . فإن كان متوفى عنها ، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها . وعن علي : تجب نفقتها في التركة . وابن مسعود فإن أرضعن لكم أي : ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة ، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن ، ويجوز عند . وفي تعميم المطلقات بالسكنى ، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة ، وتشاركهن في السكنى . ( الشافعي ) افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمروا ، إذا أمر بعضهم بعضا . والخطاب للآباء والأمهات ، أي : وليأمر بعضكم بعضا ( وائتمروا بمعروف ) أي : في الأجرة والإرضاع ، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم ، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معا ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليه . وقال : ( وائتمروا ) تشاوروا ، ومنه قوله تعالى : الكسائي إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك وقول امرئ القيس :
ويعدو على المرء ما يأتمر
وقيل : المعروف الكسوة والدثار . وإن تعاسرتم أي : تضايقتم وتشاكستم ، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية ، وأبى الزوج الزيادة ، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجانا ، وأبت هي إلا بعوض فسترضع له أخرى أي : يستأجر غيرها ، وليس له إكراهها . فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة ، بل المنكوحة في معناها . وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر ، أي : فلترضع له أخرى . وفي قوله : فسترضع له أخرى يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم . والضمير في " له " عائد على الأب ، كما تعدى في قوله : فإن أرضعن لكم أي : للأزواج . ( لينفق ) الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه ، أي على المطلقات والمرضعات ، ولا يكلف ما لا يطيقه . والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج ، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم . وقال : إنها على الأبوين على قدر الميراث . وفي الحديث : " يقول لك ابنك أنفق علي إلى من تكلني " . ذكره في صحيح محمد بن المواز . وقرأ الجمهور : ( لينفق ) بلام الأمر ، وحكى البخاري أبو معاذ : ( لينفق ) [ ص: 286 ] بلام كي ونصب القاف ، ويتعلق بمحذوف تقديره : شرعنا ذلك لينفق . وقرأ الجمهور : ( قدر ) مخففا . : مشدد الدال ، سيجعل الله وعدا لمن قدر عليه رزقه ، يفتح له أبواب الرزق . ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت ، ولا بفقراء الأزواج مطلقا ، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر ، ولو عجز عن نفقة امرأته . فقال وابن أبي عبلة أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يفرق بينهما . وقال وجماعة : لا يفرق بينهما . عمر بن عبد العزيز