[ ص: 302 ] قرأ نافع وأبو عمرو : ( أأمنتم ) بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل والبزي أبو عمرو وقالون بينهما ألفا ، و : بإبدال الأولى واوا لضمة ما قبلها ، وعنه وعن قنبل أوجه غير هذه . والكوفيون ورش وابن عامر بتحقيقهما . من في السماء هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أنه - تعالى - ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن " في السماء " هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء . لكن خص السماء بالذكر ; لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان . وقيل : " من " على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء . وقيل : " من " هم الملائكة . وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره . وقيل : " من " بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الإجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ; لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء . أن يخسف بكم الأرض وهو ذهابها سفلا فإذا هي تمور أي : تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح . وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال : حسان بن ثابت
فأنذر مثلها نصحا قريشا من الرحمن إن قبلت نذيرا
وأثبت ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة . ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار ورش قريش بهذه القصة ، وأنه - تعالى - لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل . ( صافات ) باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ( ويقبضن ) ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى . وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله - تعالى - : فالمغيرات صبحا فأثرن عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحا فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضا جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله :
بات يغشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر
أي : قاصد في أسوقها وجائر . وقال : ( صافات ) باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ; لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا ( ويقبضن ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . ( فإن قلت ) لم قيل : ( ويقبضن ) ولم يقل وقابضات ؟ ( قلت ) : أصل الطيران هو صف الأجنحة ; لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارئ على البسط ; للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . انتهى . وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم . والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل بـ ما يمسكهن إلا الرحمن أي : بقدرته . قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو إنه بكل شيء بصير يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب . انتهى ، وفيه نزوع إلى قول [ ص: 303 ] أهل الطبيعة . ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء ، واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقا بشكل ، لا من ثقل ولا خفة . وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففا . الزمخشري مشددا . وقرأ الجمهور : ( أمن ) بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة ; لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه . وكذلك من هو رازقكم إن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم . وقرأ والزهري طلحة : " أمن " بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة . قال صاحب اللوامح : ومعناه أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم ؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ . انتهى . بل لجوا تمادوا في عتو في تكبر وعناد ( ونفور ) شراد عن الحق لثقله عليهم . وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم .
. قال أفمن يمشي مكبا على وجهه قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة . وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - . فالمشي على قول كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ فقال : إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه قتادة حقيقة . وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلا للكافر والمؤمن في الدنيا . فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما . وقال أيضا : نزلت في ابن عباس أبي جهل والرسول ، عليه الصلاة والسلام . وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى : أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه . وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستويا لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه . و ( مكبا ) حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال - تعالى - : فكبت وجوههم في النار والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . وقال : ولا شيء من بناء افعل مطاوعا ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب الزمخشري ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته ، حتى أن الإمام سيبويه أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتابا يذكر فيه ما غلط فيه وما جهله من نصوص كتاب الزمخشري . وأهدى : ( أفعل ) تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل ؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى . وانتصب ( قليلا ) على أنه نعت لمصدر محذوف ، و " ما " زائدة ، و " تشكرون " مستأنف أو حال مقدرة ، أي : تشكرون شكرا قليلا . وقال سيبويه ابن عطية : ظاهره أنهم يشكرون قليلا ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع . وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قل ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته البتة . انتهى . وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك . ( ذرأكم ) بثكم ، والحشر : البعث ، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي : متى إنجاز هذا الوعد ؟ .
فلما رأوه زلفة أي : رأوا العذاب وهو الموعود به ، " زلفة " أي : قربا ، أي : ذا قرب . وقال الحسن : عيانا . وقال ابن زيد : حاضرا . وقيل : التقدير مكانا ذا زلفة ، فانتصب على الظرف . " سيئت " أي : ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل . وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب ، و طلحة وابن عامر ونافع . " وقيل " لهم ، أي : تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم . وقرأ الجمهور : " تدعون " بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من [ ص: 304 ] الدعوى . قال والكسائي الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار . وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن ، وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : " تدعون " بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة ، عن أبي بكر ، و عن الأصمعي نافع . روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالهلاك . وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : " إن أهلكني الله " كما تريدون ، " أو رحمنا " بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ؟ ولما قال : " أو رحمنا " قال : " هو الرحمن " ، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى . وقرأ الجمهور : " فستعلمون " بتاء الخطاب ، و : بياء الغيبة نظرا إلى قوله : فمن يجير الكافرين . ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص . والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب " إن أهلكني " : " فمن يجير " ، وجواب " إن أصبح " : " فمن يأتيكم " ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه . الكسائي